قراءة في قصة الموت
الزمن – البنية – الدلالة
للأخ المبدع معمر القذافي
*****
"
إذا كنا نموت لأسباب داخلية فإن ذلك يعني أنه قد تكون لدينا أسباب داخلية
لكي " نموت"
فرويد
( من
كتاب الموت والوجود )
إعداد : د.فاطمة سالـم الحاجي
حظيت الدراسات الثانولوجيا ( دراسات الموت )
Thanatology
باهتمام كبير " وهو مجال علمي جديد " خاصة ما يتعلق بالموضوعات والمشاكل
العلمية المرتبطة بعملية الموت .
أشار هاملت (إلى الموت على أنه الأرض التي لم يعد من شواطئها كل من سافر
إليها ونحن لا تستطيع أق نفكر في الحالات التي يكون عليها الأشخاص عندما
يموتون إلا كما نستطيع أن نفكر في أين يذهب لهب الشمعة عندما ينطفئ. "
فالموت دائماً يكون خارج نطاق مقدرتنا على الفهم، حيث يحيط الغموض بنواحيه
وهو يمثل للإنسان إشكالاً حاداً فأكثر الحقائق الكونية إزعاجاً هي حقيقة
الموت .
إن كيفية سلوكنا اليومي تتشكل حسب اتجاهنا ونظرتنا إلى الموت كما تصاغ في
قوالب ثقافية قائمة تتحدد حسب الرؤى الدينية والاجتماعية.
وانشغل المفكرون والأدباء على مر الزمن بفكرة الموت وكانت المحرك لكثير من
الفلسفات في الكون .
وإذ كان لكل مجتمع رأيه في الفناء البشري وفى تأثير الموت على الوجود
الإنساني ، رأى يختلف حسب المجتمعات فإن هناك بعض لأفكار التي توحد بين
أفراد المجتمع الإنساني في مواجهة الفناء وترفع من مستوى إنسانيتنا.
والأدب هو خطاب المعرفة بما يتمثل فيه من رؤى ودلالات القضايا الكونية
الكبرى والأديب يستوقفه الموت كأهم السدود أمام الخلود الكوني ويعمل على
اختراق الموت باستعمال الفن أداة لقهر الموت وصولاً للخلود.
وفي محاولة فضاء قراءة قصة الأديب والمفكر معمر القذافي ( الموت )اكتشفت
رؤية فنية مركبة للموت.
رؤية مخالفة لمنظورنا الاعتيادي بتوظيفه عدة وسائل فنية ممتعة، وما هو ممتع
في الأدب سابق على ما يرشد ولا يمكن حذف أي من العاملين في أي جنس من
الإبداع .
تتناول القصة فكرة الموت على عدة مستويات وما يثير فضولنا للقراءة دافع
التطلع إلى المعرفة والتوقع ، والبداية تقدم لنا إمكانية الاكتشاف للكيفية
التي تبني بها الأعمال الأدبية والكيفية الفنية لاستثمار اهتماماتنا
وتوقعاتنا حول مسيرة الأحداث والكيفية التي يتم بها انقيادنا إلى إدراك
المغزى الكامن وراء التجربة حيث تحمل القصة بعداً فلسفياً لمعنى الحياة من
خص مفهوم الموت.
فما هي خصوصية هذه القصة التي تكون مادة تثويرية للروح الخالق حسب منظور
هذه القراءة .
في هذه القراءة اعتمد على النص ومحاولة التفسير لأبد أن تقوم على استكشاف
الوحدات والأبنية النصية والعلاقات بين هذه الأبنية، فمهمة الناقد هي أن
يقول لنا لماذا هذا النص جميل؟ ولماذا الأعمال الجميلة تأسرنا، فنتجاوز
المرحلة الأولى مرحلة التذوق إلى مرحلة أرقى وهي المسألة العلمية الفلسفية
(التفسيرية) حيث يتحول النقد إلى ضرب من مساءلة الذات عبر النص الأدبي .
أغلب القراءات النقدية السابقة التي اطلعت عليها لم تتجاوز قراءة المضمون
أو ما يتصل بعلاقة المبدع بمجال القصة من حيث تميزه في الموقع السياسي وهذا
إما يجعل كثير من الرؤى تحكمها مسبقاً معطيات معينة يصعب الابتعاد عن مجال
تأثيرها .
أما القراءة الأسلوبية فهي تبتعد بقدر معين عن الذاتية حيث تنطلق من البناء
الفني للقصة والوعي الفني في الكتابة القصصية هو تعبير عن موقع المبدع
ووعيه حيث أن القاص عكس الشاعر لا يخضع لإلهام فقط وإنما يبنى عالمه الفني
حسب قصدية معينة .
فالفن ليس مطابقة بسيطة للواقع وللتاريخ حيث كثر القول حول التعبير عن...
أو تدل على..... الخ. هذا الاختزال يجعلنا نحرف أبصارنا عن أبعادها
التعبيرية والشكلية وطرائقها السردية التي تميزها وتعطيها خصوصيتها.
البناء
الزمني :
يعتبر فن القص فناً زمنياً فلا يمكن أن يكون أي بناء قصصي دون الاعتماد على
مفهوم الزمن ، والزمن القصصي هو فن تخييلي في مقابل الزمن الواقعي ، وكل
التقنيات الفنية التي يستعملها الكاتب في بناء القصة أو الرواية لها علاقة
بشكل مباشر أو غير مباشر بالمفهوم الزمني فالشخصية لا يمكن أن تقوم بدون
زمن تعمل فيه، والأحداث هي توالي في الزمن ، والمكان يكتسب من الزمن في
دلالات عديدة ، واللغة التي هي الأداة الفنية هي مفهوم زمني- إن الزمن يجد
اختزاله العلمي في الفعل. (1)
وبواسطة اللغة تتجلى التجربة الإنسانية حسب مفهوم بنفيست (2) وحسب بول
ريكور (3) إن النظام أزمنة الفعل كيفما كان مستقلاً في علاقته مع الزمن لا
يقطع بأية حال مع تجربة الزمن لها.
مفهوم الزمن من أكثر المفاهيم تعقيدا وذلك على مز العصور وهو مفهوم جوهري
في تنظيم الفكر والعمل ، وهو مرتبط بحياة الإنسان فالحياة مفهوم زمني
والموت مفهوم زمني ، فنحن أبناء الزمن والعمل الأدبي يجسد الزمن بعدة
مفاهيم حسب قصيدية معينة وحسب الوعي باللحظة الزمنية المراد تجسيدها.
وقصه الموت هي تجسيد لمعنى الزمن فكيف سنتعامل مع بنية الزمن؟- فالسهولة
التي يمتاز بها الكاتب في اتخاذ أي موقع زمني هي من الصعوبة بمكان من جهة
الناقد لأنها بنية متحركة .
منذ العنوان " الموت " ندخل في مفهوم الزمن بمعنى ما حيث الموت هو العدم "
اللازمن " وحيث أن العنوان هو عتبة من عتبات النص فيطالعنا هذا المفهوم
ليدخلنا في مجال الزمن والعدم .
إن قصة الموت تحفل بمدى زمني طويل على عكس ما هو معتاد في القصة القصيرة .
- فالمدى الزمني يبدأ من لحظة تساؤل في الزمن الحاضر حول هوية الموت.
ونستطيع تقسيمه إلى مستوين: المستوى الأول والمستوى الثاني :
أ-
المستوى الأول ينقسم إلى قسمين: القسم الأول يمثله صوت الراوي المعبر عن
الزمن الحاضر.
1- صوت الراوي المعبر عن الزمن الحاضر .
2- زمن الراوي وهو زمن ماضي .
ب-
أما المستوى الثاني فهو زمتن بطل القصة الوالد الذي يتقاسم النص مع الموت
في الحضور ويستعير الراوي العليم ذاكرته ليروى عنه أحداثاً تاريخية في
مواجهة الموت.
ظهر هذا الزمن في صورة مرتبة كرونولوجيا إلا أق التناوب بين مقاطع السرد
جعل هذا الزمن يبدو متقاطعاً بشكل واضح مع الزمن الحاضر.
تبدأ القصة بطرح تساؤل حول هوية الموت، هل الموت ذكر أم أنثى ثم يستعير
النص رأيين لشاعرين الأول للشاعر الجاهلي طرفة بن العبد الذي يعتبر الموت
ذكراً- والرأي الثاني للشاعر نزار قباني الذي يعتبر الموت أنثى وهذه
المقدمة لا تدخلنا عالم التخييل بقدر ما تدخلنا عالم التساؤل والوقوف حول
غرابة السؤال .
أما المستوى التخييلي وهو البداية الحقيقة للقصة فيبدأ في المقطع السردي
رقم:(2) ص 65: "عندما يقول أنا من خبرتي ومصائبي تأكدت من هذا فالموت ذكر
ومهاجم دائما.... " ويستمر الوصف إلى ص 67 حيث يتدخل الصوت الزمني الحاضر
فيخرجنا من التخييل إلى حالة الواقع " فل اتنتظروا من الموت رحمة ولا شفقة
فهو لن يأخذ بخاطركم ولا يقدر ظروفكم ، ولا يحترم حياتكم " ثم يذهب الراوي
لاستحضار الزمن الماضي زمن متصل بحياة الراوي وندخل في عالم التخييل مرة
ثانية في المقطع السردي رقم 3: الذي يقول: " لقد قتل أخوتي في عمر الزهور"
ثم يعلمنا السرد بتفاصيل هذا القتل: "لقد جوّع أسرتي حتى أجبرها إلى السفر
إليه وأغرى اخوتي باللعب معه في المستنقعات فأسقاهم سمّ هود فقتلهم أربعة
أولاد وبنتين" فللإعلان عن موت الأخوة سبق تفاصيل موتهم لاهتمام النص بما
يحدث الموت في ذاته أكثر من اهتمامه بطريقة موتهم .
من هذا المقطع يتجسد لنا زمناً ماضياً زمن بطل القصة الأب في صراعه الزمني
الأسطوري مع الموت ويرتبط بزمن الراوي حديث ينعطف الزمن الأول على الزمن
الثاني بأداة العطف (ثم) فزمن الراوي وزمن المروى عنه يرتبطان ولا ينفصلان
في السياق السردي فبعد أن توقف السرد في قوله أربعة أولاد وبنتين " يقول ثم
دخل في معارك طاحنة مع أبي الشجاع " فيبدو الراوي هو الرابط بين زمنه وزمن
أبيه .
في هذا المقطع يفسح النص مسافة قصيرة لصوت الأب هل من رصاص لأقتل لكم الموت
" وهنا إبراز صورة قتل الموت- ثم يتدخل صوت الراوي ليخرجنا من فضاء
التخييل في الماضي ليقول : " قلت لكم إن الموت يهزم ويولى الأدبار ولا يخجل
من الخذلان " فينقطع تتابع السرد التاريخي لموقعة تاريخية هي موقعة
القرضابية فتوثق القصة الحدث التاريخي مما يعطي القارئ قناعة الحقيقة السرد
.
المقطع الزمني الأخر هو الذي يجسد الخيانة في صورة الموت في صورته القبيحة
" الذكر" وقد عمل على تقريب صورة الماضي باستعمال أسماء الإشارة هاهو قذاف
الدم في الرمق الأخير وهاهي الشمس تنحدر على رأسها نحو الأرض " ويقطع هذا
الزمن بتدخل صوت الراوي " قلت لكم ليست كل خبرات الموت مسددة ولا كل طعناته
قاضية " ثم يعود إلى الزمن الماضي زمن والده فمي معركة ثالثة مع الموت
"هاهو يتقمص حية رقطاء في واد غير ذي زرع فينهش عقب أبي بكل غدر وخيانة".
وفي مقطع تكراري يتكرر حضور الموت في صورة أفعى تلدغ والده – وقد نجا من
الحادثتين بفضل الشاي في المرة الأولى- وباكتسابه مناعة في المرة الثانية.
المقطع الزمني الأخير ينقسم إلى قسمين الأول عند ما يحدد وفاة والده ثم يقص
علينا تفاصيل سماته في مواجهة الموت الأنثى: " استسلم له بعد ذلك استسلاماً
هادئاً ثم ننفصل عن حدث الموت ليدخلنا في زمن حاضر معاصر وقضية أخرى هي
الفن وتخديره للجمهور العربي والتخدير غياب زمني فالأنساق المخدر إنسان ميت
ليس له إحساس بالزمن .
ثم يعود إلى إكمال مشهد وفاة الوالد وتفاصيل استقباله للموت هذه المرة-
الموت في صورة الأنثى " إن أبى يسترخي بينما نحن نتشنج ونتمزق جزعاً وألماً
وهو يبتسم وينشرح وسط غيبوبة الموت ".
الوصف
:
إن الوصف هو التقنية البارزة في النص والوصف كتقنية جاء لخدمة القصة
وعنصراً أساسياً في العرض ، نحو الوصف جاء على صورتين ، الصورة الأولى مقطع
وصفى طويل منفصل عن السرد فهو ذو وظيفتين الأولى تمديد زمن الخطاب والوظيفة
الثانية تكثيف صورة الزمن في استعماله ( كم من ضحية افترسها وهى في غفلة "
وكم من ضحية افترسها وهى نائمة حالمة " "وكم من ضحية افترسها وهي ضاحكة
مستبشرة لا تفكر فيه " فلفظ افترسها المكرر عمل على تكثيف وحشية الموت
وتكراره في الزمن باستعماله وسائط لغوية مثلاً في قوله " قد ينهش رضيعاً من
ثدي أمه " وفي قوله قد يمد يده إلى داخل بطنها ليخرجه ميتاً بعد طول
انتظار" قد يخطف أحد العروسين " .
قد هنا تصرف المضارع إلى الماضي لأنه يتحدث عن جرائم الموت فهو يتحدث عن
جرائم الموت في الماضي، وفد أفاد هذا الأسلوب في اصطحاب الحال كما في قوله:
تعالى " يا قوم لم تؤذونني وقد تعلمون أني رسول الله إليكم " سورة الصف
61/51 .
واقتران قد بالفعل المضارع تفيد التحقق في الماضي والتحقق في المضارع
والمضارع هنا معناه الاستمرارية والمضي في فعل النهش وإدخال اليد إلى البطن
لإخراج الطفل ميتاً وخطف إحدى العروسين وقد عبر عن اصطحاب الحال واستمرارية
أن اختيار لحظات زمنية محزنه خلقت الصورة البشعة للموت الذكر المعادي.
الصورة الثانية للوصف عندما جاء متدخلاً مع السرد يقول: " الموت يسمع ويرى
" ثم يقول " ولكن أبى كان مقاوماً شرساً مثل الموت ".
الوصف ساهم في خلق المعنى في تجسيد الموت في صورة إنسان: مثلاً يرفض
المصالحة لا يقدر ظروفكم خارت قوى الموت - تراجع مثخناً ولى مهزوماً إلا
أنه رغم الجراح والطعنات فإنه لن يستسلم أبدأ ولم يقع في "الأسر" كل هذه
الصفات صفات تجسد الإنسان الذكر وساعد على تحريك مفهوم الموت والوصف عمل
على تغطية لحظه الفراغ لجعل الحركتين السرديتين متواصلتين .
ارتباط
الزمان بالمكان :
ارتباط الزمان بالمكان في القصة يبدو واضحاً المكان المعادي والزمن المعادي
ساحة الحرب زمن المجاعات واللعب في المستنقعات مما يؤدى إلى الموت- الصحراء
والأفعى: الصحراء تحمل دلالة الموت والضياع في حد ذاتها وازدادت كثافة صورة
الموت عند خروج الأفعى- والأفعى هي التي تحمل الصورة العدائية الأبدية
للإنسان وما يسكن الذاكرة من حتمية المطاردة بيننا وبينها منذ الخليقة
فتصبح صورة الموت المتمثلة في الصحراء ولدغ الأفعى صورة مكثفة مرعبة
لارتباط الزمان بالمكان- وانتصار الوالد عليها أضفى صورة أسطورية على
الموقف البطولي من الموت الذي يتحدى الزمان والمكان " هاهو يتقمص حية رقطاء
في واد غير ذي زرع ولا ماء فينهش عقب أبى بكل غدر وخيانة وجبن في أعماق ليل
بهيم تحت جذع طلحة صحراوية ذات أشواك قديمة مرعبة فيتحد الليل وهو مفهوم
زمني مع جذع الطلحة التي تلتصق بالمكان الصحراء .
كما أن استعمال لفظ وادٍ غير ذي زرع يعيد إلى أذهاننا حدثاً زمنياً يرتبط
بترك هاجر وابنها إسماعيل في الصحراء بعد أن تركهما النبي إبراهيم عليه
السلام .
فتثير الصورة بعداً زمنياً مركباً للضياع والبطش في الصحراء في الزمن
الماضي البعيد والصحراء والأفعى في الزمن الماضي القريب.
تأطير الزمن :
العمل القصصي يصور إشكالية معاناة الإنسان في مواجهته للموت وصراع البطل مع
الموت في أزمنة مختلفة وأمكنة مختلفة .
هذه الأزمنة هي الزمن الماضي والزمن الحاضر ، وتقاطعهما في بنية القصة يجعل
لدينا الإحساس بمقاطعة الموت لحياتنا ، الحاضر هو الزمن المقاطع والزمن
الماضي هو الزمن المقطوع فالحاضر تعبير عن إرادة الإنسان وتواجده في زمنه
والبنية السطحية هي قضية هوية الموت جنس الموت ذكر أم أنثى أما البنية
العميقة فهي مواجهة الموت ومقارعته.
وبما أن لاشيء يقدم اعتباطاً في النص فإن للكاتب رؤية معبرة نقلها حول
مفهوم الموت.
وما نلاحظه هو الثنائية الضدية بين صورة الموت في الماضي المرتبطة بالعدو
والخيانة والأفعى وصورة الموت الطبيعي وجاء التعبير سكنها بالزمن الحاضر
جاءت صورة الموت الذكر مكررة أربع مرات وصورة الموت الجميلة في صورة أنثى
مرة واحدة و هذا ذو دلالة في التعبير على أن الإنسان في صراع دائم مع صورة
الموت القبيحة ( الذكر ) والتي يجب التصدي لها ومقاومتها، أما الصورة
الجميلة فهي لا تأتى إلا مرة واحدة . إن مفهوم
الموت كبعد من أبعاد الزمن يرشح بالدلالة فالموت هو العدم "وهو اللازمن "
وقد جسد النص المفهوم فجاء مكرراً والتكرار يؤلف طريقة في التكوين فإذا
استعملنا الإحصاء تصبح الدلالة في حكم الإمكان متجلية في شتى التقنيات
فنلاحظ أن تكرار لفظ الموت جاء في سبع وثمانين مرة وتكرار المفردة الواحدة
جاء عامل بناء ودلالة.
عن القصة تستعمل التكرار الزمني المصحوب بتوزيع الصور وتنوعها للموت وهو ما
يسمى بالإيقاع والتكرار في الفن جزء من الإيقاع الفني وجاء الموت مكرراً
بأوصاف متعددة ساهمت في تجسيده كوحش متحرك متربص بالإنسان .
إن الوعي بإشكالية الموت يقتضي أن يكون الإنسان على مستوى من النضج الروحى
وأن يكون ذا فكر متصل بالنبع الأصلي للوجود والحياة والى درجة من إدراك
وجوده فالإنسان البدائي لم تمثل له الموت مشكلة .
فالموت هي رفض لتناهي الوجود جوهرياً إذا اعتبرنا أن الزمانية هي الطابع
الأصلي للوجود فالزمن الساعات والحياة العملية زمان غير حقيقي أما الزمان
والوجود فهما شيء واحد حسب هيدجر.
ودلالة الزمن في القصة هي صراع الإنسان في الدفاع عن وجوده زمنية والتصدى (
للعدم ) للموت المفنى لوجودنا .
ثانياً
: البنية :
تبدأ القصة بإثارة سؤال هام وطريف ومحير: هو التساؤل حول جنس الموت
( هل الموت ذكر أم أنثى ؟ ) ..
إن إثارة السؤال هو الذي يشدنا كقراء منذ البداية إلى القصة وحيرة السؤال،
فللموت قضية لازالت تشغل الإنسان منذ أول حادثة موت على الأرض إلى الآن
فالاستهلال بالسؤال هو الطليعة الدالة وهو مفتتح مناسب لمقصد المتكلم .
أولاً :
إن القاص يضمن مشاركتنا الفعالة منذ البدء بإثارة اهتمامنا بشكل الطرح
ونحاول التنبؤ بما سوف تصير إليه الأحداث وهذا ما يثير تشويق القارئ
فللتشويق دور كبير في إثارة الانتباه وشد القارئ للمقروء- فالتشويق هو الذي
أنقذ شهرزاد من القتل وليس الحكي في حد ذاته ثم أن الانتقال من المروي عنه
عبر تعداد حالات الموت إلى المروي عنه شخصياً (الراوي ) حيث يسرد لنا قصة
موت اخوته. يحول العلاقة بينه وببن القارئ من علاقة الاحتمال إلى درجة
علاقة اليقين عندما يقص علينا تجاربه شخصياً وهذا الأسلوب غير من موقع
الراوي في درجة الحضور مما جعله يتحرك في ساحتين أو موقعين :
1-
ساحة الحكي في المتخيل القصصي .
2-
ساحة الواقع عندما يتحول إلى أسلوب المخاطبة فتبدو العلاقة قريبة مما يجعل
من علاقة القارئ بالمتخيل القصصي نمطاً خاصاً يكاد يكون يقينياً.. وهذه
الصيغة حققت شرط التواصل التي تفرض مظهر امتلاك سلطة معرفية .
والراوي لا يدخر وسعاً في إقناع القارئ وجلب حالات تدل على اطلاعه العيني
عليها أو معايشته لها بمشاركته في التجربة فهو يعقد المقارنات بين الأحداث
المروية حادثة وفاة أخوته أو في حالات هجوم الموت على فريسته .
- ويوظف هذه الصورة بطريقة تعبيرية مؤثرة في وصف حالات إنسانية
( ينهش رضيعاً من ثدي أمه ) ( قد يخطف أحد العروسين في ليلة الزفاف ) مما
له وقع في ذهن القارئ .
ينحو الراوي نزعة وثوقية لبث ما يقول عن مصدر موثوق به ومؤثر فهو يستعير
ذاكرة والده ليروي لنا أحداثاً تاريخية .
ويتحول من العام إلى الخاص عندما يتحول من وصف الموت بصورة عامة إلى مواقع
خاصة وأحداث مع الموت في مواجهة والده وهنا يحصل تقريب لصورة الموت عبر
الانتقال من المشهد العام إلى المشهد الخاص فتبدو التفاصيل وأجزاء الأحداث
والمشاهد المكونة لمواجهة الموت اقرب إلى ذهن القارئ وامتزاج صوت الراوي
بشخصية الأب حتى يصل التجسيد إلى المستوى الأسطوري .
إن الانعطاف في الأسلوب من عرض إلى آخر لا يخلو من مقصد فيذكر الغرض الأول
ليستدرج القارئ منه إلى الغرض الثاني .
وهذه الحركة في السرد جعلت القارئ يتابع المعركة بين الموت والأب ، وبين
الراوي وبينه وخلقت نوعاً من التشويق والحركة فحسن موقعها في النفس .
ونلاحظ أن النص له مستويين في تعامله مع قضايا كونية عظمى: قضية الموت،
هوية الموت ، صورة الموت المتعددة ، مقارنة الموت. ومقاومة الموت هي القضية
التي تقوم بتأطير مجموع القضايا فيصبح مفهوم الموت ، صور الموت المستوى
الأول للقصة وهو ما نسميه ( المستوى السطحي ) ويصبح مفهوم مقاومة الموت هو
المستوى العميق للقصة أو البنية العميقة للقصة .
إن للقصة خصوصية في ( المروي له ) أو المخاطب وهو ( الرجل ) الذكر ، ونفهم
هذا من خص فعل القراءة بما يثيره من معاني للموت وارتباطها بصورة الأنثى.
فهو يطرح قضية منطقية محددة لبحث هوية الموت (إما أق تكون ذكراً وهنا يجب
مقارعته ، أما أن تكون أنثى يجب الاستسلام لها حتى الرمق الأخير ) ص75 .
في ربط الموت بالأنثى هو تصوير جميل للموت البيولوجي حينما يربطها بالعلاقة
الجميلة بها أي ( الأنثى ) وهذا له ارتباط مع مخزونها ألذاكري حول هذا
الموضوع، فصورة الموت جميلة بهذا الشكل في مخزون الرجل ( الذكر ) فقط
لارتباطها بلطف حضور الأنثى لديه .
إن التداخل بين مفهوم الموت البيولوجي البنية السطحية للنص ومفهوم الموت
الوجودي البنية العميقة تجعل القارئ العادي لا يلتفت إلى ما يقصده القاص
إلا (
بمعاودة القراءة المتيقظة حيث لا يصبح للموت البيولوجي من معنى حيث أنه موت
حتمي لا مفر منه ويرسمه في صورة مبهجة تثير مخيلة ( الرجل ) بما يرتبط به
من علاقة مع صورة الأنثى .
أما الموت الحقيقي عندما يتخاذل الإنسان ويجبن في مواجهة الموت المتمثل في
صورة العدو الغاصب أو الخائن أو في كل ما هو معادى للإنسان ( الأفعى ) فهو
الموت الحقيقي الذي يجب مقارعته وعدم الاستسلام له .
وفكرة ربط الموت بالأنثى هي فكرة تشير إلى ما يمنع في القصة أو ما يرشد
إليه فهو أعمق بكثير .
اللغة:-
فرق علماء الدلالة بين أنواع المعنى : المعنى الأساسي ، المعنى التصوري
والمعنى الإضافي . وللألفاظ في النص خصوصية حيث تؤخذ اللغة بكيفية توظيفها
وأهميتها البيانية.
فاللفظ هو الدال وهو يحمل خصوصية حيث يتحول من المعني الأساسي إلى معنى آخر
إضافي وأقدم مثالاً على هذا في استعماله للفظ ( الانبطاح ) يحول اللفظ من
القاموس العسكري حيث له مدلول معين هو وضع للدفاع يستعمله في القصة للتعبير
عن مدلول آخر وهو موضع يدل على الاستسلام والضعف والتنازل : فالقاص يرفض أن
يأخذ والده موضع الانبطاح .
يقول ص 67: ( لم يرم من وضع الانبطاح بل اتخذ وضعي البروك والوقوف ) فانزاح
اللفظ من مدلول إلى مدلول آخر حيث يصبح وضع الانبطاح تعبيراً عن الاستسلام
والضعف أمام الموت وكثيرة هي الألفاظ المأخوذة من القاموس العسكري مثل
رهينة - استسلام - هدنة. وتوظيفها في أسلوب فني خيالي.
وهناك ألفاظ مستوحاة من القرآن الكريم وظفت بطريقة معبرة مثل لفظ ( غير ذي
زرع ) وهى آية من القرآن الكريم لوصف ترك نبي الله إبراهيم زوجته هاجر
وابنه في الصحراء، فتثير فينا هذه الألفاظ تعاطفاً في استحضار صورة هاجر
وابنها في أسلوب التشبيه ولكن إرادة الأب ( الأسطورية قهرت هذا المكان
العدائي وتدخلت كما تدخلت إرادة الله القوي وأحدثتا حدثاً خارقاً بأن فجرت
الماء بين أصابع الطفل. تفجرت إرادة الوالد لقهر الموت ومغالبته في التدبير
رفضاً للموت والاستسلام له.
الرمز :
إن القصة تحمل رموزاً عديدة حيث يتحول العدو المستعمر إلى موت والخيانة إلى
موت والأفعى إلى موت لكن ما أشير إليه هو فكرة الأفعى كرمز للموت والعدم في
ذاكرتنا الإنسانية منذ بدء الخلق فهو يختارها ليس اعتباطاً وإنما لقوه
تأثيرها في مفهومنا الذاكري المخزون .
فالرمز قبل كل شئ دلالة حسب ( هيجل ) وهو لا يكون دلالة لا مبالية بل دلالة
تحتوي مقدماً على مضمون التمثل الذي يجب أن تستحضره.
فالفكر البشرى يحمل صورة معادية للأفعى وتصبح الأفعى هي العدم والمثير في
القصة أن يجعل من مقاومة الأب لسم الأفعى من الداخل دلالة على مقاومة العدم
أو الموت وكل ما هو معادى للإنسان من داخل إرادته ، المحاولة المنبثقة من
داخل الذات في فعل تكراري له أثره فهو لم يجعل في القصة عملية إقصاء خارجية
للأفعى وإنما جعل الأب يقاوم العدم الموت من الداخل من داخل الإنسان حيث
تكون الإرادة الحقة لرفض كل ما هو معادي في الحياة ومقاومته ويجعل من توظيف
الإرادة في شخصية الأب دلالة على استمداد الوعي من الجذور الكامنة فينا في
جذورنا القريبة ( الأب ) لسهولة استمد
ادها.
الدلالة
: Semantics
إن تعدد المعاني لا ينبع من عالم النص نفسه فقط ولكنه ينبع من مرجع تاريخي
مزدوج يتمثل في عالم المؤلف وفى الظروف اللاحقة للتلقي والتأويل حسب بول
ريكور وهذا يجعلنا ندرك عالم المؤلف في تمثله لروح الثورة في الوطن العربي
وفي الظروف التاريخية التي يعيشها العربي مستسلماً خاضعاً ولروح النقد التي
تستفيق في الساحة الليبية لتشبعها بروح التنوير ولقدرتها على إدراك المعنى
العميق حيث تكون مهمة القصة تعميق معرفتنا بأنفسنا وبقدراتنا بالعالم
الحقيقي للإرادة حيث
تكون ضرورة الفعل أكثر إلحاحاً .
فالحياة ليست هذا الشفاف المغلق بل هي الهالة المضيئة داخل وعينا التي
تحركها أحداث القصة كقيم مؤثرة على وجداننا وعقولنا لتزيدنا وعيا
بإنسانيتنا وتتحول
القصة كما قلت في الصفحات الأولى إلى (مادة تثويرية للروح الخالق) حيث تحمل
الموت صورا متعددة هو الاستعمار والخيانة وكل ما هو معادى للإنسان وعدم
التخاذل أمامهم لأن ذلك هو الموت الحقيقي .
ويجعل من الموت البيولوجي صورة فرحة حيث تكون هذه الفرحة المتدفقة على وجه
الأب هي فرحة إرادة القوة التي ترى في كارثة العدمية ضرورة لابد منها
ويستقبل موته برعشة النشوة ومرحها ، أنه إنسان العهد الجديد الذي يتصدى
لكارثة الموت الوجودي ويتحول إلى إنسان فاعل غير منفعل رافضا للإنسان
المنفي في قوقعته الذاتية ومحكوم بشرط تاريخي ظالم يتحكم في الروح - أن
القصة مادة تثؤيرية للروح الخالق .
هي انتصار على الموت بما تحمله من فكر وبما تحمله من فن .
فالفن هو انتصار على الموت وإنقاذ لحياتنا من الدمار الشامل .
أ.
فاطمة سالم الحاجى
|