البعد الإنساني في إبداعات معمر القذافي
البحث عن بيئة أخلاقية...
بقلم : عزالدين ميهوبي
رئيس اتحاد الكتاب الجزائريين
****
عندما اجتمع قادة العالم في جوهانسبورغ ، (جنوب إفريقيا) هذا الصيف
وتطارحوا في قضايا تشغل بال الإنسان على كوكبه ، برزت تناقضات عميقة بين
البلدان الصناعية المكرّسة لهيمنة القوي على الضعيف ، ولم يجد فقراء العالم
أمام وضع مختل كهذا سوى أن قالوا في نبرة يأس وإحباط " إننا بحاجة إلى
كرتين أرضيتين !".. وعندما يصل الأمر إلى هذا الحد في البحث عن مجالات أخرى
للعيش فإن حالة التعايش مع وضع غير طبيعي فرضت منطق الهروب إلى أرض أخرى أو
كوكب بديل لا قهر فيه ولا صناعة لموت منظم..
ولن أكون مغالياً إذا قلت إنه في حالة " وجود " كوكب آخر فإن الذي أفسد
الكوكب الحالي.. لن يهدأ له بال حتى يفسد البيئة ، فيسمم البحار بدعوى أنها
ميتة من مئات السنين ، ويوسع في ثقب الأزون طمعا في الانفلات من ذلك الثقب
وولوج فضاءات أخرى.. ومواصلة عمليات الاستنساخ والهندسة الوراثية وتفكيك
ألغاز الجينوم فربما انتشرت في العالم الآلاف من مارلين مونرو والملايين
ألفيس بريسلي..
إن العالم الجنوبي المتخلف تنموياً لا تعنيه النعجة دولي بقد ما يسعى
لتأمين الحد
الأدنى من حياة أفراده..
إن ما يطرحه العالم اليوم من احتجاج حول حالة الوجود طرحه المفكر معمر
القذافي في نصوصه الإبداعية الجميلة " القرية القرية.. الأرض الأرض وانتحار
رائد
الفضاء.. التي حملت استشرافات عميقة ذات دلالات واضحة وبينة ، وحملت معها
هاجس الخوف على الإنسان المهدد في كيانه المادي و الروحي.
ففي سياق الانقلابات التي يعرفها العالم منذ بروز موجة الاستكشافات
الجغرافية المعززة بالثورة الصناعية والدخول في وضع استعماري رهيب ، شعر
الإنسان بحالة انسلاخ من إنسانيته وتدمير مبرمج لوجوده.. وفيما ساد المنطق
التدميري تراجع المنطق التنويري وبينهما برز المنطق التبريري.. أي تبرير
الاستعمار كضرورة حضارية يفرضها منطق نشر قيم النهضة والحضارة وتوسيع دائرة
المدنية ، وصار القتل والإبادة والتفقير والتجهيل أمرا.. حضاريا مشروعا لا
تجوز محاربته أو مقاومته .
من هنا بدأ تفكيك المجتمعات الأصلية وأنشئت على إثرها مجتمعات هجينة مؤسسة
على منطق القوة أولا والقوة ثانيا والقوة أبدا.. في هذا الوضع الجديد شكلت
المدينة الفضاء الأفضل لقتل كل قيمة إنسانية نبيلة ، ولم يعد الإنسان ذلك
الكائن الذي يميزه العقل ، لكن هذا العقل ارتدّ عن أداء وظيفته كصمام أمان
لحماية الإنسان المستخلف في الأرض .
يقول معمر القذافي في صرخة مدوية " أي نوع من البشر هؤلاء الذين يئدون
الأرض ويدفنونها حية حتى الموت.. على أي أرض يعتمدون بعد ذلك في معيشتهم ؟
أين سيعيشون ؟! " .. ويضيف في صرخة أخرى " إذا خربتم أشياء أخرى قد لا
تخسرون ، ولكن إياكم أن تخربوا الأرض.. لأنكم عند إذ ستخسرون كل شيء
- الأرض هي رئتكم للتنفس فإذا خربت ، فلا رئة لكم تتنفسون بها.. ".
لقد وضع القذافي منظومة جديدة من القيم التي تدخل في ما يمكن أن نسميه
" حقوق الأرض " وليس عن حقوق الإنسان التي حولها الغرب مشجباً
لمحاكمة دول الجنوب الفقيرة وتأديب الأنظمة التي تشق عصا الطاعة.. فقبل أن
نتحدث عن حق الإنسان في التعليم والصحة والإعلام والتعبير والتفكير وحقه
المقدس في الحياة ، ماذا عن حق الأرض في الحياة الكريمة (!).. لقد تحولت
إلى مقبرة للنفايات والأوبئة.. ولنا فيما تكشف عنه مؤتمرات الأرض التي
أقيمت في العشرية الأخيرة ما يغنى عن كل تعليق.. فالكل يدق جرس الإنذار لكن
هذا الكل يرتكب الجريمة ويخفي الأدوات !
يقول القذافي مدافعا عن الأرض " لا تقطع شعر رأس أمك.. ولا تبني أثقالاً
فوق صدرها " معترفاً أن " كل صراعات التاريخ.. هي من أجل الأرض " فهذه
الأرض التي هي في النهاية لا تختلف عن الأم في حنوها وعلاقتها بأبنائها ،
غير أن هذه الأم أيضا تعاني كثيرا من عقوق الأبناء وتمردهم.. فالدعوة واضحة
لعدم قطع شعر رأس الأم لأن التاريخ علمنا أن الشعر بالنسبة للمرأة هو رمز
العزة والكبرياء ، ألم تستخدم نساء قرطاج ضفائرهن حبالاً من أجل إنقاذها ؟
فقطع شعر الحرة مذلة وإهانة واحتقار.. فالأرض أم وكفى . ويذهب القذافي
بعيدا في الدفاع عن الأرض العذراء التي أصابتها أذية المدنية القاتلة حين
حولت الجنات الخضراء إلى مساحات من الإسمنت الميتة ، ويتساءل في صورة جميلة
جداً " الجنة خلقت أشجاراً ولم تكن طرقاً وأرصفة وساحات وعمارات ..
".... ورغم أن حالة الانبهار والدهشة تبقى كبيرة بما يحققه العالم من تطور
في هندسة المدن الكبيرة والمباني الشاهقة والأبراج الخارقة إلا أن ذلك لا
يغير شيئا من علاقة الإنسان الأصيل بالتراب أصل كل شيء.. والقذافي في نصوصه
الإبداعية الفلسفية العميقة يتحرك دخل رؤية ثلاثية الأبعاد إنسانية الهدف
هي " لعنة المدينة وفردوس القرية وخلود الأرض " وهي مترابطة فالأرض هي
الثابت بينما تبقى المدينة هي الفضاء القاتل لبيئة المثل والقيم الأخلاقية
العالية والبديل هو القرية التي تحافظ على النسيج الأسري والترابط
الاجتماعي الوثيق.
لعنة المدينة وفردوس القرية :
يمكن اختزال رؤية القذافي إلى إفرازات المدينة السلبية إلى أنها حاملة "
لفيروس التفسخ والانشطار فالمدينة كما جاء في قصته " المدينة " هي " مقبرة
الترابط الاجتماعي " تقتل الحس الاجتماعي والمشاعر الإنسانية " ويعلل ذلك
بأن المدينة "
ابتعدت عن الروح الودية والأخلاق.." ويذهب في رؤيته الثاقبة إلى أن في
المدينة " حياة دودية بيولوجية يحيا فيها الإنسان وبموت بلا معنى "
وأن في شوارعها " يتساوى الآدميون والقطط " .. فتعرية واقع المدينة ينطلق
من كون القذافي في هذه الكتابات الإبداعية يتجه نحو إنتاج " بيئة أخلاقية "
تكفل للإنسان حريته وكرامته وإنسانيته في كل أبعادها.. ويرى أن البديل لن
يكون أكثر من مسافة تقود الإنسان إلى قرية هادئة يتعارف فيها الناس ويشكلون
عائلة واحدة تستشعر الألم والحزن في كل فرد منها كما تبتهج لمسرات وأفراح
بعضهم البعض .
فالقذافي الذي ينطلق من فضاء ذي خصوصيات واضحة ومعالم بارزة ، هي الفضاء
الليبي والعربي المتشابه في بنائه الثقافي والاجتماعي وحتى النفسي ، يدعو
الناس صراحة إلى هجر المدينة والعودة إلى القرية التي تشكل فيها المثل مصدر
الإلزام الخلقي وليس الخوف من الشرطي والقانون والحبس والغرامة ،... ويذهب
في تعبير ذكي ولطيف منافحاً عن القرية بأن الحياة فيها لا تعرف " تدافعاً
بالمناكب.. ولا طوابير ولا انتظار.. ولا حتى نظر للساعة.. ".. في حين يرى
في تعبير مؤلم ومر يخاطب فيه الإنسان " في المدينة يحترمك الحائط أكثر من
البشر " ويشرح هذه الصورة بما يجعل العقل يستوعب وضعا مقلوبا يتحول فيه
الإنسان إلى مجرد رقم في الشارع وأن الجدار الواقف يؤدي وظيفة كثر فاعلية
من الإنسان.. " فالحائط فقط واقف في المدينة ولكن الناس هي التي تستطيع أن
تقف مع الحائط ".. وهذا الوضع استوقفني في مصطلح صار الأكثر تداولاً في
فترة التسعينيات في الجزائر هو
" الحيطيست " أي الشاب البطال ، العاطل عن الشغل ، الذي يقضي كل وقته مسندا
ظهره إلى حائط ، فلم يجد الناس سوى أن استحدثوا هذا المصطلح الفاضح لوضع
اجتماعي ، والكاشف لموقع الحائط في الوضع الاجتماعي عموما..
إن المنطق المقلوب هو الذي جعل الإنسان دون قيمة رغم أن "حياة المدينة مجرد
تضييع وقت " وأن" كل شئ في المدينة بثمن " وأجد نفسي سعيدا بأن أتقاطع مع
هذه الفكرة في مقطع شعري كنت نشرته عام 1990 :
في بلادي
كل شئ بثمنْ
حبة الملح وأعواد الثقابْ
غمزة الأنثى ببابْ
كل شئ بثمنْ
جرعة الماء
ومفتاح السكنْ
كل شئ يثمنْ
ما عدا الإنسان والوقتَ
فخد ما شئت - إن شئت -
ومن غير ثمنْ
ولعل الصورة الأكثر إيلاماً هي ما عبر عنه القذافي في ذات القصة من أن
" المدينة تجذب الفلاحين وتغريهم ليتركوا الزراعة ويتحولوا إلى أرصفة
المدينة تنابلة كسالى عاطلين متسولين " فعندما يتحول المزارع إلى إداري،
بيروقراطي ، غير منتج فالمسئولية تلقى أصلا على انفراط العقد في علاقة
المزارع بالأرض وانجذابه لإبهار المدينة ، مثلما الشأن بالنسبة لرائد
الفضاء الذي ظل مشدودا إلى أعلى فانتهى إلى أسفل بين يدي مزارع لا تهمه
المسافة بين الأرض والمشتري إنما تهمه المسافة بين شجرتين في حقله ! ..
قد لا تعجب قصة المدينة أصحاب الفنادق الفخمة والمطاعم الكبرى والمركبات
السياحية المبهرة والأبراج المثيرة لأنه قصة صادقة تعري زيف المدينة وتطفئ
أضواءها الساحرة فهي في كل حالاتها " طاحونة لساكنيها ".. وهو أبلغ وصف
لهذه المدينة التي تبتلع كل شيء ، الإنسان والزمن والأخلاق..
وفي مرافعة إبداعية قوية تحمل إدانة واضحة وصريحة للمدينة يقول القذافي
" ليس للمدينة قمر ولا شمس ولا شفق ولا غسق يختلط ليلها بنهارها..
" فنحن في النهاية " نرى تحت أقدامنا ونقرأ الملصقات وننتبه للإشارات ونحشر
بالضرورة في دنيا الأشياء الصغيرة.." ويخلص إلى أن " ليس ثمة وقت في
المدينة ".. إن وضعاً كهذا يدفعنا إلى أن نتساءل كيف يعيش الإنسان في مدن
تختزن ملايين البشر مثل مكسيكو وشنغهاي ولاغوس والقاهرة..؟! لقد تحولت بفعل
توسعها المعماري وازدياد نموها البشري إلى غيتوهات مغلقة ينام فيها الناس
كأنهم في علب السردين المجفف.. ويستيقظون على حرب طاحنة من أجل القوت
اليومي !
ولم تغب عن المبدع معمر القذافي صورة أطفال المدن إذ أن كما يقول " أتعس من
كبارها " وفي انتقال هادف من وضع الوصف إلى الرفض المطلق لهذا الوضع يخاطب
الأطفال بروح الأب الذي قلبه على أبنائه فيقول " إلى أين أنتم ذاهبون أيها
الأطفال الأبرياء تلك بيوت الناس.. إنكم لا تعرفونهم .. " فإذا كان الطفل
يشكل رأس مال الأمة فهو في منظور القذافي " ينمو بيولوجيا " ليشكل بعد ذلك
" نموذجاً لإنسان العقد والأمراض النفسية.. وهذا هو سر ذبول القيم
الإنسانية والروابط الاجتماعية.. ".
إن المأساة الحقيقية لإنسان المدينة كما يعبر عنها المبدع معمر القذافي
تكمن في أن " ساكن المدينة ليس له اسم أو لقب أو منسب ، اسمه هو رقم شقته "
أي أنه ليس أكثر من رقم في سجلات الحالة المدنية أو مدوناً لدى مصالح
الضرائب وهيئات الانتخاب. ويخلص إلى أن العلاجات الممكنة ضد أمراض المدينة
هي " السُّكرْ والجنون والانتحار ".. ولن نكون بحاجة إلى تقديم أرقام عن
معدلات الانتحار التي تزداد بصورة مخيفة في بلدان ذات تطور تكنولوجي كبير،
فانتشار المخدرات وتفشي الجريمة وزيادة حركة الاحتجاج الاجتماعي كلها نتاج
حالة الانسداد الأخلاقي والروحي التي يعرفها العالم المتمدن في.. الإسمنت !
فإذا كانت المدينة قد تحولت إلى لعنة في حياة الإنسان ، فهي بذرة كل
الثورات والفتن والحروب والصراعات.. وهي المجال الخصب للأزمات التي لا
تنتهي.. والقذافي لا يكتفي بنقده القوي للمدينة معدداً أسباب إجهازها على
الحياة الإنسانية وتدميرها لكل رابطة قوية تحافظ على صلة الرحم واستمرارية
العائلة بل يدعو الناس جميعا بصراحة مطلقة أيضا بقوله " اهجروا الجحيم
الأرضي.. وفروا سريعا وبكل ابتهاج إلى القرية والريف " .
وهي بكل ما تحمله من شحنة الرفض المحتوم لحياة المدينة تعد مسلكا لتجاوز
أزمة المدينة ، واستحضر في هذه الدعوة الصريحة للعودة نحو منبع الأصل
القرية والريف وحتى البادية التي يرتقي فيه الإنسان بقيمه وأخلاقه، أستحضر
أبياتا للشاعر الأمير عبد القادر الجزائري :
يا عاذراً لامرئ قد هام في الحضر وعاذلاً لمحبّ البدو والقفر
لا تذمنّ بيوتاً خف محملها
وتمدحن بيوت الطين والحجر
لو كنت تعلم ما في البدو تعذرني
لكن جهلت وكم في الجهل من ضرر
ما في البداوة من عيب تذم به
إلا المروءة والإحسان بالبدر
من لم يمت عندنا بالطعن عاش مدى فنحن
أطول خلق الله في العمر
الحسن يظهر في بيتين رونقه
بيت من الشعر أو بيت من الشعر
لقد وضع معمر القذافي المدينة والإنسان تحت مجهر لقياس درجات التفاعل
الأخلاقي فاكتشف مقابل علو الأبراج والعمارات انهيار القيم والمثل فلم يكن
بحاجة إلى كبير عناء ليطرح بديله القرية التي يتحقق فيها التناغم بين
الإنسان ومحيطه ، لتكون البيئة الأخلاقية أبعد ما تكون عن التلوث
التكنولوجي الذي تتسع دائرته مع اتساع دائرة العولمة التي لم تلغ القيم فقط
بل ألغت الإنسان.. إذن ما جدوى العالم اليوم . فهل يكفى انتحار رائد الفضاء
فقط ؟..
|