قضايا حقوق الإنسان

من

خلال إبداعات القذافي

                                                                                                              محمد مصطفى القباج

 =======================================================================================

      إن القيام بعملية استقراء لتاريخ الأفكار عامة وتاريخ الأدب بأجناسه التعبيرية الجمالية المختلفة خاصة تفرز قضية في غاية الأهمية ، وهي أن كبار المفكرين والقادة الثوريين يتجاوزون الإنتاج النظري أو التأملي أو الأيديولوجي ليوظفوا الخيال من أجل ترسيخ الاقتناعات في ولا وعي الجماهير . مردّ ذلك على وجه التأكيد إلى أن مخاطبة الوعي يحتاج إلى مخاطبة موازية للاوعي الجمعي بغية تعميم المضامين النظرية المؤسسة للشأن الفكري أو السياسي . الطريق السالك إلى ذلك الوعي يكون عبر الخيال الخلاق المنتج لنصوص تعبيرية لا تتقيد بالمنطق والبراهين الحِجّاجية وإنما بأنماط جمالية متحررة يكاد مفعولها يعادل مفعول السحر من حيث الشطحات الأخّاذة وأناقة المنطوقات مما يميل إليه انفعال ووجدان قراء النص التعبيري .

    الأمثلة على هذه الاطروحة عديدة ابتداء من حكماء وفلاسفة الإغريق إلى فقهاء وفلاسفة الإسلام إلى فلاسفة وأدباء التنوير الأوروبي ثم الأمريكي إلى فلاسفة وأدباء الحداثة وما بعدها واللائحة طويلة . وبالإمكان الذهاب إلى أبعد من ذلك – في إطار هذه الإطروحة – إلى القول بأن الكتب الدينية السماوية وغير السماوية سلكت نفس النهج في الإقناع عن طريق الإعجاز القولي المؤسس على الجمالية التعبيرية .

      هذه الأطروحة العامة هي التي تتيح شرعية إدماج إبداعات القذافي ضمن هذا النهج الجمالي الموظف في خدمة البناء الفكري و السياسي للنظرية العالمية الثالثة كما هي معروضة في النص الإبداعي (الكتاب الأخضر ) أو في بقية النصوص القصصية أو القصائد الشعرية التي حبرها قلمه .

       حين يقرض القذافي الشعر , أو يدبج القصة , أو يحرر التأملات و الخواطر فأنه لا يرمى إلى تحفيز المفكرين و الأدباء على الالتزام بقضايا الناس , فهدا أمر لا يعنيه بالأساس مادام المفكرون و الأدباء أحرارا فيما يكتبون أو يبدعون , ما يهمه هو أن ينفذ إلى وعى و لا وعى الناس في نفس ألان و ممارسة التحريض المؤسس للفعل الثوري .

       كيف تأسس لدى القذافي في هدا التوجيه نحو ممارسة التعبيرية الجمالية شعرا و قصة إلى جانب التنظير الفكري و الأيديولوجي ؟ الجواب على هذا السؤال في اعتقادي يحتاج إلى إبراز قيمة الإضافات الأساسية التي أتى بها فكر هذا الرجل من خلال نظريته السياسية و شروحها, و أن كان يقول و يكرر بأن النص المتضمن لهده النظرية أي الكتاب الأخضر (( ليس من تأليف شخص ... انه تجميع لمعطيات موجودة و لبديهيات متوفرة في حياة الإنسان و تاريخه)) .

      و عليه فأن دلك النص الإبداعي لا يدخل في خانة الأبحاث و الدراسات , و لا يحق لنا أن ندمجه تحت طائلة النصوص العالمة و إنما هو استشراف محض و جميل موضوعه كما رأينا معطيات و بديهيات الاناسة من خلال الواقع المعيش و الممارسات الفعلية عبر أحداث التاريخ الثقافي . و جملة القول أن الكتاب الأخضر إبداع مباشر يلعب فيه المبدع دون الوسيط , مادام يكلم تلك المعطيات و الدبيهيات , و يكون له الفضل في صياغتها صياغة لغوية مباشرة دون ايلاء الاهتمام للخلفيات و هو يقوم بدور الوسيط الجمالي و التحريضي يؤسس لرؤية غير مسبوقة مخلفة لكل مألوف , و تقطع مع تراث الماضي بما فيه تؤاخذ التراث الفكري و السياسي لما قبل القطيعة القذافية على انه أقصى جماهير الشعب من السلطة , و منحتها لنخبة تنتدب لممارسة السلطة على الجماهير , باسم شرعية سماوية أو ارضية و العنف و الاضطهاد و الدوس على كرامة الناس و انتهاك الحقوق و املأ سلوكات الإذعان و العبودية .

     أذن الأمر بالنسبة للكتاب الأخضر لا يتعلق ببناء نظري لتوجه سياسي , بل بإبداع سيتلهم وقائع و أحداثا لا ينفذ إليها العقل على اعتبار كونها تشكل المعيش بكل تعقده الوجودي و الوجداني , و تلك لعمري المنهجية المعقدة التي تجمع بين ظواهر الوعي و خبايا اللاوعي كما يتجلى ذلك حين تعم إلى معاينة ممارسات الأفراد و الجماعات .

    ............... فهو يقرأ بطانة الإنسان بجرأة ثورية تكرس حرية الفرد ، وتعزز كرامته ، وأن لا وجود لسلطة فوقية متعالية تتعامل مع الإنسان كشخص مقوّدٍ مفعول به .

   إن الشعب هو سلطة نفسه ، ولا يمكن البتة أن تُناب عنه أقلية أو أكثرية في ممارسة هذه السلطة . هذا تصوّر لا يستقيم منطقياً ولكنه يستقيم واقعياً ، ومعلوم أن الواقع أغنى من العقل على عكس المقولة الهيجلية " كل ما هو عقلي واقعي ، وكل ما هو واقعي عقلي " ما يعرف عند الفلاسفة بالبانولوجيسم . إن السلطة لا تكون مشروعة إلا إذا كانت جماهيرية بمشاركة كل أفراد الشعب دون استثناء. من هذا المنظور تنتصب المعطيات والبديهيات الإناسية  لتمنع كل أشكال العسف والهيمنة والقمع . لن يكون هناك حاكم ومحكوم ، مالك ومملوك ، مشغل وأجير ، نائب ومنوب عنه ، ستكون السلطة في يد الجميع والقرار يعود إلى الكل .

     لو يعمد أي فرد إلى استعمال نهج العقل والمنطق فسيستحيل عليه أن يستوعب عمق هذا التوجه الجماهيري كتوجه لا يفهم ولا يستساغ عقلانياً ، وإنما يدرك إدراكاً مباشراً ، أي بالنفاذ إلى الحدوس النافذة إلى أعماق الناس ووقائع التاريخ ، وهذه معطيات وبديهيات أغنى من عقل المُنظِّرين العقلانيين الذين يُنصِّبُون أنفسهم لصياغة أنظمة وممارسات لا جماهيرية .

     تأسيساً على هذا فإن نص الكتاب الأخضر ينقل المعطيات والبديهيات من دائرة المعيش إلى دائرة الصياغة اللغوية الإبداعية المثَورة ، وسيكون علينا عملاً بهذا النص أن لا نقف عند حدود حقوق الإنسان كفرد ، وإنما نتجاوز ذلك إلى تكريس حقوق الجماهير في بعدها الجمعي لا الفرداني . إن حقوق الإنسان " لا وجود لها في مجتمعات العسف والاستغلال ... ولا ضمان لهذه الحقوق في عالم فيه حاكم ومحكوم ، سيد ومسود ، غني وفقير " (2) .

    كل الأدبيات المتعلقة بحقوق الإنسان قبل وبعد صياغة الإعلان العالمي سنة 1984 ، وكذا المناقشات والمداولات التي رافقت هذه الصياغة تبيّن أن روح الإعلان تتجسد في منطق القوة بناء على أن العالم فيه أقوياء وضعفاء ، دول عظماء ودول حقراء ، هكذا وحسب حدوس القذافي فإن الإعلان العالمي بناء مغلوط ومؤسس على نظريات مغلوطة وممارسات لا علاقة لها بمعطيات وبديهيات الواقع المعيش عبر أحقاب التاريخ . ينجم عن هذا أن كل ما يترتب عن هذه الرؤى سيكون لغير صالح جماهير الناس التي من حقها أن تمارس السلطة مباشرة دون وسيط أو وصي أو نائب أو منتدب . (3) .

    نستطيع إذاً أن نوقع طروحات القذافي وحدوسه في الفكر الحقوقي والقانوني على أنها ذات تميز خاص ، فهي طروحات مشيّدة على معطيات وبداهات الحدس المستنطق للواقع المعيش ، إنها معطيات مباشرة ، وبهذه الصفة فإن من أخصّ خصائصها كونها غير جامدة ، وأنها ما دامت حيّة فهي قابلة للتأصيل والتحيين ، ومن واجب الجماهير أن تكون يقظة مُحترسة ، أن تكون مُجنّدة  في كل وقت وحين للاستماتة من أجلها وتحريض الناس للدفاع عنها كحق طبيعي ، أرضي وسماوي في نفس الآن .

    هكذا ، وبكل المقاييس فإن الكتاب الأخضر يشكل البؤرة التي تحيط حواليها التنويعات والتفريعات المصاغة صياغة أدبية ، ونقاد الأدب يعرفون أن شروحات وتأويل أي نص إبداعي لا تضيف إليه أي جديد ، وإنما تبرز خصائصه الجمالية والإسلوبية ، وكذا إضافاتها اللغوية من الكلمات والتعابير .

      النصوص الأدبية القذافية – شعراً وقصة – تبحر في عوالم من الخيالات التي تصدم قارئها وتفاجئه بصور ورمزيات تنبّهه إلى ما يدخله من مشاعر لا يستطيع الإعراب عنها بنفسه ، وهنا نعتبر النص المُكهرب " تحيا دولة الحُقراء " يستحق ما وصف به من أنه يدخل ضمن الـ " المنشور ضد القانون " لكن أي قانون ؟ .

    طبعاً قانون العسف والقمع ، أي القانون الذي لا تضعه الجماهير لنفسها " ما أجمل فجر الحقراء عندما ينبلج دون إذن من أحد ... ما أمتع زقزقة العصافير في فجر ذلك اليوم العظيم !! ما أحلى أغاني تلك الضحى العسجدية !! ما أحلى هذا الحلم الخطير !! .(4)

     نستطيع أن نعتبر هذا النص محاولة " عبر – أسلوبية " وغرائبية – ومن خلال تداعيات في غاية الروعة – لبث الرعب في نفس القامعين والمتسلطين تُنذرهم بأن حقراء العالم لن يبقوا مكتوفي الأيدي تجاه مظالم من يصنّفون أنفسهم كعظماء ، وهو تصنيف خاطئ يثير القرف لأنه يبني العظمة على التحقير ، فمن يعتبر نفسه عظيماً فعلى حساب من يعتبره حقيراً ، فحذار من الحقراء و " ما أجمل يوم قيامة الحقراء " (5) المقرون بالنفخ في صور البعث ، سيضحكون فيه حتى البكاء ، بكاء الفرحة بعد الانعتاق من الهوان ، وإنه يوم بعث مشهود تسخن فيه " العيون الجامدة ، ويجري سريعاً في عروقها الدم الذي كان ممنوعاً ، فتسخن وتسخن ، وإذا بالورم هو كتلة يابسة من ماء العيون تلك العيون الشاردة ، في ذلك اليوم تنهمر ببكاء الفرح كمطر الشتاء . اغسلوا وجوهكم الحالكة المُرهقة بالماء الغالي ، بماء العيون ، بالدموع الربانية المقدسة . (6) .

   ولوضع الحقارة امتياز خاص ، له حدود تصُّورية ووضعية ، فلا يريد القذافي أن يكون الحُقراء " سلاطين ، لأن ذلك يسيء إليكم ويصمكم بوصمة العملاء ، ولا أريد أن تكونوا أثرياء فإن ذلك يلحق بكم الضرر ويصيبكم بداء الأغنياء الذي ليس له دواء ، ولا أريد أن تكونوا شيوخاً وفقهاء لأن ذلك يسيء إليكم ويصمكم بوصمة العملاء ، ولا أريد أن تكونوا أثرياء فإن ذلك يلحق بكم الضرر ويصيبكم بداء الأغنياء الذي ليس له دواء ، ولا أريد أن تكونوا شيوخاً وفقهاء لأن ذلك يصمكم بوصمة دجل الجهلاء " (7).

    الصفة الأساسية للحُقراء أنهم " موجودية " إنسانية جمّعية ، يرتبط فيها الأفراد فيما بينهم برابطة المعايشة أو المواطنة ، دولة الحقراء دولة المساواة والأمن ، دولة ليس لها حدود ، لأن الحد أمر مصطنع لا يمتُّ إلى الطبيعة بصلة ، دولة لا وجود فيها للفساد ، لأن " الأرض الفاسدة لا تقوم فوقها إلا دولة الفاسدين " (8) هكذا يتكلم القذافي كما تكلم قبله ( نيتشة ) بلسان ( زرادشت ) وهو يتسلق القمم والمرتفعات ، حين يشرف النّاص ( أي صاب النّص ) على العالم من علٍ ييتبدَّى له أن الوصمة التي تُضعف أي إنسان هي العجز ، ومع ذلك فإن هذا العجز هو الطريق السالك إلى الثورة فيا " أيها العاجزون المساكين ما أبعدكم عن الحقيقة المرة ! يحسدونكم أيها العاجزون لأنكم تسلكون أبسط الطرق في الحياة ولا تكلفون أنفسكم أية مشقة ، ولستم في حاجة إلى تأويل أي شأن من أموركم ، ولا إلى تفسيره . كل شيء واضح في حياتكم أيها العاجزون لا غموض ولا إبهام ، تتجنبون مسؤولية التفكير وما يترتب عليه من تدبير ، ولا تحيدون عن طريقكم المعتاد وتصرفاتكم المحدود ، وتتنازلون عن أية مهمّة فيها صعوبة ، ترحمون أجسادكم وتريحون ضمائركم ، وتخدعون أنفسكم بأساليب مريحة للغاية وتستخفون بأي مناكفة تتعلق بما تفعلون وتؤمنون "(9) .

    العجز هو التعلق المطلق بكل مؤشراته ، والإنكار المطلق لكل ما تُمثله مفارقاته ، لدرجة إنكار ما لا يقبل النكران ، وإنه لوضع سلب ونفي ، إنه بالتبعية عطالة وخلف . العجز هو تحميل الآخرين المسؤولية بالكامل لما يحصل للعاجزين لكون دنياهم " لا معنى لها ولا فاعلية " (10) دنيا " لها الفضل ، وليس لغيرها ، في تكوين تراكمات معنوية في الأدب والأسطورة والميتافيزيقا خاصة ، فلولاها لكان العالم مادياً جافاً حسابياً ، ضارباً في مضروب ، وطارحاً من مطروح ، وقاسماً تحت مقسوم وجامعاً على مجموع ، وهندسياً مُقعراً ومحديّاً وحاداً وحرجاً ومعكوساً ودائرياً ومتقابلاً ومتوازياً غير متلاق أبداً" (11) . طبيعي أن يكون مبرّر الهزائم يكمن في ثقافته العاجزين ، وأن تُفسّر النكسات بالحظ ، وأن يُبرَّر التقصير باللا إدارة ، ويعود سبب الانحطاط إلى لا سبب ، وتغيب المسؤولية كمهوم بلا ما صدق .

      أين تتموقع الثورة القذافية أنطولوجياً ومعرفياً إذن ؟ الجواب واضح الآن ، إنها تتموقع كتحقيق ( ENQUETE ) ديالكتيكي ، تحقيق بالنقائض ، الثورة توجد " عندما يصل توغل شعور العجز إلى جزء من حياة العاجزين ، ويفقدُ العاجزون الشعور بالعجز ، وبكل ما يترتب عنه من انحطاط ، وتكون فرصة الثورة جيًدة للغاية إذا طرأ على مصدر العجز خلل يشجع على التجاسر " (12) .

   هذا النص توصيف عميق وأصيل لجينالوجيا الثورة إذ حين يبلغ العجز مداه ينبثق النزوع إلى التثوير ، وبالتالي فإن الطرح الجماهيري يرفض التحزُّب إلا في حالة واحدة وهي إنشاء حزب الحُقراء العاجزين ، أو على الأقل إقامة رابطة بين هؤلاء تتحول كيفياً إلى قوة محرضة على التغيير من خلال ثورة تأتي على الأخضر واليابس لتحول الأرض إلى أرض صلاح تفرز الصالحين ، أي تحقق المعادلة السياسية البسيطة ( الشعب = السيد ) ذلك أن " المواطنين الذين يشكلون مجموعهم الشعب هم الفلاحون والعمال والتجار السابقون والحاليون ، والسماسرة السابقون والحاليون والطلاب والموظفون والضباط ، وأعضاء اللجان الشعبية ! والباعة المتجولون ، والزنادقة والمهربون ، وخطباء المساجد الأميون ! وموظفوا الجوازات ومعارفهم ، ورجال ونساء الجمارك ومعارفهم ، والجنود الذين يتقاضون ، كلهم يشكلون الشعب ، زائد الذين يعالجون في الخارج لأسباب غير صحيحة ، كذلك الذين مُدت إليهم هواتف والذين لم تمد لهم لعدم معرفتهم . والشعب يتكون كذلك من الذين يسافرون لمهام والذين يسافرون دون مهام عدة مرات ، هذا التعريف للشعب لا يفرق بين الذين ينزلون في الخارج في فندق ريزيدانت أو إنتركونتينونتال والذين ينامون في مكاتب المكتب الشعبي حتى يؤدوا مهمامهم ثم يعودوا " (13) ويذهب النص بعيداً في رصد الحالات المُفارقة للتصور الجماهيري ، أي رصد ما يؤسس العجز الثوري الذي إضرام الثورات عملية مستمرة ومتواصلة .

******

    إبداعات القذافي هي أيضاً إبداعات جمالية شكلاً ومضموناً ، يتجلى هذا في النص الذي نسلط عليه الآن أضواء التحليل والتأويل ألا وهو المجموعة القصصية ( القرية القرية ، الأرض ، وانتحار رائد الفضاء ) . النص في الواقع مجموعة سرديات ، منطلقها المعطيات والبديهيات المتضمنة في ( الكتاب الأخضر ) الذي هو في الحقيقة كتاب قطيعة مع النظريات والأنظمة السياسية ، بالارتداد إلى الأصل المتأصل للديموقراطية ، الديموقراطية المباشرة كما عرفتها المدينة الإفريقية العتيقة ، وتأطير كل ذلك بالتطبيقات والإجراءات التقنية والعملية ، وما يستتيع هذا من حقوق بديلة : ( حرية الشعوب المواطنة – حقها في تدبير شأنها – حرية تنقلها وإقامتها – حقوق المواطنة المواطنة – الحق في التعبير العلني عن الرأي – الحقوق المؤسسية – الحق في الحياة بإلغاء عقوبة الإعدام – حقوق التقاضي – حقوق الاعتقاد – الحقوق الاقتصادية والاجتماعية وعلى رأسها الحق في العمل والتعليم – حق الإسهام في إحياء الثقافة والفنية – الحق في تقرير المصير – حقوق الانتماء القومي – الحق في بناء الأسرة – الحق في السلام – احترام سلطة الشعب المتحرر ) (14) . انطلاقاً من هذا النسق الحقوقي يوظف القذافي خياله وطاقته الإبداعية في إنتاج نصوص قصصية فكرتها الجيدة هذا زعزعة اليقينيات ، بما في ذلك يقينيات النظرية الجماهيرية ومستلزماتها التنظيمية والاعتبارية .

     أول أقصوصة في المجموعة تحمل عنوان ( المدينة ) وهي مُرافعة قوية وحارة لفضح مثالب المدينة ( كوسط مُصطنع ) مقابل القرية ( كوسط طبيعي ) " المدينة تقليعة ... تقليد غبي ... لا تقدر على المقاومة ... قاتلة ... تشريط تلقائي ... كل شيء فيها بثمن ضد الزراعة ... يتطحلب كل شيء حولها ... تقتل الهواء النقي والحس الاجتماعي والمشاعر الإنسانية ... كل المدينة مظاهر خادعة ... يتبلد فيها الإحساس وتتكون قناعة بعدم المسؤولية ... تجرك إلى تغيير مظهرك  وتبديل قيمك ... أما أطفال المدينة فهم أتعس من كبارها " (15) تنتهي الأقصوصة بنداء حار لإنقاذ الإنسان من خبائث المدينة . أليس في هذا النص الثرّ دعوة لحق أساسي من حقوق الإنسان في أن يعيش داخل بيئة سليمة تحترم فيها التوازنات الطبيعية القائمة على تنوع الكائنات ، نباتية أو حيوانية أو إنسانية . لا يعني هذا أن القذافي يحض سكان المدن على النزوح عنها وإفراغها ، ولكنه يحث أهل القرى ليعودوا إلى قراهم ، منبعهم المتحضر ، أن يتركوا المدينة لأهلها ممن يحسنون سيرورات المسخ في الحواضر المتوحّشة .

     الأقصوصة الثانية ( القرية القرية ) وهي تتضمن كذلك امتداح هجرة المدن والفرار إلى القرية ، حيث يتسع مجال الرؤية الطبيعية للإنسان فيستمتع بملكوت الله الواسع المتألق الرائع حيث تشاهد الثريا الطبيعية ... القرية هادئة نظيفة ... أهلها يعرف بعضهم بعضاً .... متضامنون في السّراء والضراء .... اهجروا الجحيم الأرضي وفرّوا سريعاً وبكل ابتهاج إلى القرية والريف حيث للجهد الجسماني معناه وضرورته وفائدته ومنفعته ... ما أجمل القرية والريف !! الهواء النقي ، والأفق المُمتدّ ، السقف السماوي المرفوع بلا عمد ، المصابيح الربانية ، المثل التي هي مصدر الإلزام الخلقي ، الفجر لا يُرى إلا في الريف والقرية(16). 

    ( الأرض الأرض ) الأقصوصة الثالثة ، وهي نص سردي يحث علي عدم تخريب الأرض والمحافظة عليها وخدمتها ، فإذا انهمرت السماء عليكم بالماء دون أرض فلن تستفيدوا منه إطلاقاً . أذن السماء عليكم بالماء دون أرض فلن تستفيدوا منه إطلاقاً . إذن السماء لا قيمة لها دون الأرض ، كل صراعات التاريخ التي خاضها الإنسان ضد الإنسان أو ضد الطبيعة هي من أجل الأرض ، الأرض هي محور الصراع ، حتى الفضاء استعمل من أجل الأرض (17) .

     ( انتصار رائد الفضاء ) يحدد الموقف الوجداني من العملية الانتحارية لمن يعود من الفضاء بعد ارتياده كسلوك يبرهن على عبثية التفكير في الابتعاد عن الأرض والبحث خارجها عن حلول للمشاكل التي يتخبط فيها الناس . إن ريادة الفضاء مكلفة ليعود رائده مصروعاً مصاباً بالدوار والقيء والموت ، العودة إلى الأرض باقتناع أساسي هو أن الأرض مصدر الحياة ، إنها المكان الذي يمدنا بالماء والغذاء ، وأن الحاجة الوحيدة الماسة هي الخبز والتمر واللحم والماء وان الهواء الضروري للحياة لا يمدنا به إلا غلاف الأرض ، يتألق رائد الفضاء في بث المعلومات الكمية ولكن ما يهم الفلاح هو المسافة بين شجرة وشجرة ، وليس بين الأ{ض والمشتري ، ويهمه حجم إنتاج مزرعته وليس حجم عطارد ، ينصرف الفلاح عن رائد الفضاء وأرقامه ومعلوماته ، لا يعود لهذا الرائد أي عمل يعيش به فوق الأرض فينتحر رمزياً (18) .

   الاقصوصات المتبقية : ( الفرار إلى جهنم ) و ( وعتبة الخلعة والشجرة الملعونة ) و ( الموت ) و ( ملعونة عائلة يعقوب ومباركة أيتها القافلة ) و           ( أفطروا لرؤيته ) و ( دعاء الجمعة الآخرة ) و ( انتهت الجمعة دون دعاء ) و  ( المسحراتي ظهراً ) هي نصوص توثّق رحلة أفكار يقوم بها الإنسان الجماهيري ليفضح عيوب مجتمعات ما بعد الحداثة ، ما بعد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ، ما بعد التنوير ، مجتمعات تأبه بما يريده الفرد ولا تأبه بما يريده الفرد نفسه ، مجتمعات تتنصل من كل واجباتها المقدسة ، مجتمعات لا تحترم الحق في الحياة . شاغلها الحديث المتهافت على الموت ، مجتمعات لا تحلم بالانتصار على الإمبريالية والرجعية وإنما الانتصار على ذئب أو ثعلب مجتمعات تحذر أبناءها بصفحات من التراث الرجعي لا تكلف نفسها عناء تصفية هذا التراث مما يعلق به من خرافات . إن ثائر المجتمعات العربية الإسلامية مثله مثل مسحراتي السحر ، مكروه في لا وعي الناس فما بالك بمسحراتي الظهر ؟!

    المجموعة القصصية للقذافي إذن ، صوت يزعزع الضمائر ليوقظها التأثر الذي ينزع نحو الثبات والجمود ، ولا يكون قلقاً باستمرار ينتهي به الأمر إلى كائن منخور القوى يتحول إلى قوة جذب نحو الخذلان والحقارة . موت الثائر هو إعلان بموت الضمير الذي يوازن بين الحقوق والواجبات . وكما قال الناقد النبيه أحمد إبراهيم الفقيه في شهادة له حول قصتي ( الموت ) و ( الفرار إلى جهنم ) إن مجموعة القذافي القصصية تتوفر على " عمق التحليل ، والقدرة على سبر أغوار النفس البشرية ، والسيطرة على التقنية الفنية ، وصدق وحرارة الانفعال أثناء الكتابة ( مما ) يجعلها من الأعمال الإبداعية التي تحقق لقارئها المتعة الروحية وتضيء له جوانب من حياته ، وتحرك في نفسه رغبة صادقة لتجاوز سلبيات الواقع شوقاً إلى معانقة الأبهى والأجمل في الحياة .(19) .لقد علمتنا المدرسة النقدية ، الكانطية بصفة خاصة ، أن نحترس في عمليات لتحليل والتأويل بحيث لا نسقط في الدوغمائية والقطعية ، ذلك لا يكون إلا بإدخال نوع من النسبية في الأحكام ، ومن باب هذه الممارسة النقدية لديّ بعض التحفظات والملاحظات على مُجمل ما في إبداعات القذافي .

     لقد أحسست وأنا أقرأ هذه الإبداعات أن صاحبها يسبح في مناخ معرفي               ( Episteme  ) قبل حداثي أو حداثي على أكثر تقدير ، ومن ثمة فإنه يمارس التنظير السياسي بعقلية لا تأخذ بعين الاعتبار تطورات الفكر العلمي كما نعاصره منذ أقل من قرن ، أي منذ بروز تيارات ما بعد الحداثة . هذه الدعوة لا تقلل من فكر وأدب القذافي ، ولكن هي تنبيه لئلا لا نقع في المحظور علمياً وسياسياً ، ولكن من أين أتيت بهذه الدعوى ؟  من عبارات التقطتها في المتن القذافي هنا وهناك ، وبصفة خاصة في مداخلته التاريخية على هامش الملتقى العالمي الأول حول ( الكتاب الأخضر ) من هذه العبارات :

-       " الكتاب الأخضر تجميع بديهيات " (20) .

-       " الكتاب الأخضر مقولات خالدة " (21) .

-       " التمثيل تدجيل بداهة " (22) .

-       " بديهيات الكتاب الأخضر غير قابلة للاعتراض عليها أو مناقشتها إطلاقاً" (23) .

-  " المجتمع الجماهيري نظرية أو من بها " ( 24 ) ( النظريات في العلم لا تكون موضوع إيمان كما هو معروف  ) .

     إن الدراسات الايستيمولوجية المعاصرة توضح أهمية التشكك في البديهات أو ما يطلق عليه هامش الارتياب في العلم ، بحيث يغامر العالم بافتراض بديهيات نقيضة تكون في البداية ضرب من الخيال ولكنها مع تقدم المعارف العلمية وأدوات البحث تصبح بديهيات جديدة لفهم ظواهر كانت مستعصية على الإنسان في ظل العالم القديم ، وإنجاز اختراعات وإبداعات خارقة لقوانين العقل ( الفاكس – الحاسوب – الهاتف – المحمول .... ) الأمثلة على ما قلت كثيرة سأكتفي بالمثال الأوضح والأشهر في عملي الرياضيات والهندسة : لقد كانت بديهيات ومصادرات أوقليدس من القضايا التي ا يرقى إليها الشك لقرون عدة إلى أن أتى العالمان         ( لوباتشيفسكي )  و ( ريمان ) فعارضا بديهات ( أوقليدس ) ببديهيات جديدة بقيت عبارة عن كلام لا معنى له إلى أن تطور العلم فأصبحت مداخل علمية  تحققت بها مباحث الفضاء وفهم الظواهر الماكروكونية . هذه الجرأة العلمية في وضع البديهيات موضع التشكك هي صُلبُ مباحث العالم الفيلسوف الشهير ( كارل بوبر) الذي تصدى للبرهنة على أن الحقائق والقوانين العملية نسبية ومؤقته ولا تكتسب صدقيتها إلا إذا عُثر على ما يكذبها إلا إذا عُثر على ما يكذبها ، لذلك يتقدم العلم بالتكذيب أكثر مما يتقدم بالتصديق أو ما يُطلق عليه ( معيار الفصل ) إذا كانت هذه التطورات والاحتراسات تصدق على العلوم الدقيقة فما بالك بالعلوم غير الدقيقة ومجال الآداب والفنون ؟ هذا التساؤل أدى إلى اهتمام ( بوبر ) في نفس الوقت بايستيمولوجيا العلوم الدقيقة وتطبيقاتها على العلوم الإنسانية والاجتماعية ليقوم في نهاية المطاف بحملة على دعاوي التيارات الكليانية والتاريخانية وعلى رأسها الماركسية التي تتبنى أطروحة المصير التاريخي المبني على حتميات القوانين المادية ( 25 )

     إذن من مصلحة المقاربات العلمية لقضايا السياسية أن تخضع لهذا التطور الذي شهدته الساحة المعرفية العلمية والتشبت بالنسبة وبأهمية التشكك في كل القضايا والطروحات ووضعها موضع التساؤل والمجادلة والمساجلة والبحث عما يكذب أكثر مما يؤيد . وقديماً أكد ابن حزم في رسالته ( مراتب العلوم ) أن " لقاء المتنازعين ، وحضور المنتاظرين ، فبهذا تلوح الحقائق ، فليس من تكلم عن نفسه وما يعتقد كمن تكلم عن غيره . ليست الثكلى كالنائحة المستأجرة ، ومن لم يسمع إلا من عالم واحد أوشك أن لا يحصل على طائل وكان كمن يشرب من بئر واحد ولعله اختار الملح المكدر ، وقد ترك العذب " (26)

 

    ما يطمئن هو أن النصوص الإبداعية القذافية تنحو منحى قريباً من المنظور النسبي لكشف نقيض البديهيات من خلال أسلوبية سردية تجمع بين التداعايات والرؤى الاستشرافية ، ذلك هو تفرد وتميز نصوص قائد توري يُحرض على عملية التثويرية المستمرة من خلال حاكميه محايثة ( لا حكم إلا للجماهير ) بدل الحاكية المتعالية ( لا حكم إلا لله ) بمعنى أن فكر وأدب القذافي يرفض المألوف يرفض المألوف والجامد والثابت ويخرج عنه .

 

محمد مصطفى القباج

 ــــــ
 

الإحالات

1-  من مداخلة أمام المشاركين في الملتقى العالمي الأول الكتاب الأخضر منشورة ضمن كتاب ( الدين والمجتمع ) ، طرابلس 1984 ، ص 73- 97 .

2-    الوثيقة الخضراء لحقوق الإنسان في عصر الجماهير .

3-    للاقتراب من مفهوم وقضايا حقوق الإنسان يمكن الإطلاع على الكتب التالية :

-  الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ، منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم / يونيسكو / ترجمة معهد الحقوق بجامعة وهران ، 1995 .

-       لقاء الإسلام والغرب وحقوق الإنسان المعهد الدبلوماسي– عمان ، 1996 .

-  محمد سبيلا وعبد السلام بنبعد العالي ، حقوق الإنسان ، سلسلة دفاتر فلسفية دار توبقال الدار البيضاء ، ط1 ، 1997 .

4-    معمر القذافي ، تحيا دولة الحقراء ، الشركة العامة للورق والطباعة ، طرابلس ، بدون تاريخ ، ص 7 .

5-    معمر القذافي ، نفس المرجع ص7 .

6-    معمر القذافي ، نفس المرجع ص 8 .

7-    معمر القذافي ، نفس المرجع ص 11 .

8-    معمر القذافي ، نفس المرجع ص 21 .

9-    معمر القذافي ، نفس المرجع ص 23 .

10-                    معمر القذافي ، نفس المرجع ص 24 .

11-                    معمر القذافي ، نفس المرجع ص27 .

12-                    معمر القذافي ، نفس الرجع ص 29 .

13-                    معمر القذافي ، نفس المرجع ص 51-52 .

14-                    تراجع بهذا الصدد الوثيقة الخضراء لحقوق الإنسان في عصر الجماهير.

15-      معمر القذافي ، القرية القرية – الأرض الأرض وانتحار رائد الفضاء ، منشورات الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع والإعلان طرابلس ، ط2 ، بدون تاريخ ، ص : 9-28 .

16-                    معمر القذافي ، نفس المرجع ص : 45-48 .

17-                    معمر القذافي ، نفس المرجع ص : 53-57 .

18-      أحمد إبراهيم الفقيه ، حول قضيتي الموت والفرار إلى جهنم ، قراءة أولى ، نص منشور كملحق على هامش المجموعة القصصية ، ص 196.

19-                    مداخلة القذافي أمام المشاركين في الملتقى العالمي الأول حول الكتاب الأخضر .

20-                    مداخلة القذافي أمام المشاركين في الملتقى العالمي الأول حول الكتاب الأخضر .

21-                    نفس المرجع ، ص 76 .

22-                    نفس المرجع ، ص 73 .

23-                    نفس المرجع ، ص 79 .

24-                    نفس المرجع ، ص 93 .

25-                    تراجع بهذا الصدد الكتب التالية :

-  كارل بوير ، عقم المذهب التاريخي ، ترجمة عبد الحميد صبره ، دار المعارف الاسكندرية ، 1959 .

-       كارل بوبر ، بؤس الأيديولوجيا ، ترجمة عبد الحميد صبره ، دار الساقي بيروت 1992 .

 

26- ابن حزم ، الرسائل ، تحقيق إحسان عباس ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، بيروت ، 1983 ، الجزء الرابع ، ص 59 وما يليها .


 

جائزة القذافي الدولية لحقوق الإنسان - جميع الحقوق محفوظة   © 2005

جائزة القذافي الدولية لحقوق الإنسان