المكان والزمان
في
فكر وأدب معمر القذافي
أ .
د. مهدي امبيرش
*******
المكان والزمان من أعقد القضايا التي شغلت ولا تزال الفكر الإنساني مذ كان
في بداياته ساذجا وبدائيا، حتى اليوم والإنسان يحاول أن ينفد من أقطار
السموات والأرض، هروبا من المحدودية وبحثا عن فضاء أرحب. ولنا أن نقول إن
الإحساس بالمحدودية وإن كان وراء كل تقدم في مجال المعرفة والبحث، إذ ينهد
لإنسان كما أشرت الى أن يزيد وسعه، إلا أنه يزداد مع ذلك إحساسا بها، بحيث
يظل المكان والزمان إشكالية إن لم يكن مشكلة. يحاول المفكرون، والعلماء،
مثلما يحاول الأدباء والكتاب إن يجدوا لها حلا، ولا أظنهم بقادرين إلا إذا
تخلوا عن إنسانيتهم، وقبلوا أن يتحولوا الى مجرد سوائم ومخلوقات محكومة
بقانون الفيزياء، حيث يتحولون بذلك الى أرقام وأشياء.
آدم في الجنة يرفض الرقمية والتشيؤ، يحركه الوعي بالأنا الى طرح السؤال
الكبير، ما النهاية ؟ فيكون البحث عن الخلود والملك الذي لا يبلى، أي تجاوز
المحدود، الى حيث المطلق للامكاني اللازماني، وإن كان البعض قد اعتبرها
الخطيئة الكبرى، التي دفع ثمنها أبناؤه وكان الحاجة الى مخلص يقوم بدور
التطهير، فإن آدم كان بهذه يؤكد وعيه، الذي كان ضروريا كي تتحقق المشيئة
الإلهية ، الجعل في الأرض، وإن كانت مشكلة آدم في الوسيلة التي اختارها
الشجرة، إذ المحدود لا يمكن أن يوصل الى المطلق بداهة، فكان العراء
والهبوط، ثم كان السعي الدؤوب للصعود والتسامي، وإن ظل ذلك في هذا المحدود
الكوني، إذا استثنينا شطحات الاتصال بالعقل الأول، أو الاتحاد والحلول.
وفي تراثنا العربي القديم كان ( جلجامش ) يحاول أن يتجاوز القدر، أو
المحدود الزماني، وكذا المكاني ليخرج صديقه ( انكيدو ) من عذاب القبر،
باحثا عن عشبة الحياة، التي تلتهمها أفعى، ويتأكد ( جلجامش ) أن الإنسان
الفاني محكوم بهذه المحدودية، وإن ظلت العشبة، مثلما الشجرة، تلك التي تنبت
في أعالي الجبال، وفي الأراضي البعلية حيث لم يمسس الأرض بشر، إذ( بعل ) هو
الإله وهو السيد، الذي لا يعتدى على حماه، أقول يظل دائما الحلم الذي يساور
العقول والقلوب أملا في الانتصار على المكان والزمان.
بل يمكن القول، إن ( دموزي ) الذي تشكل فكرة عودته الأبدية أساسا لنظرية
الدورات التاريخية، ونظرية المنتظر الذي يملأ الكون عدلا كما مُلىء جورا، (
دموزي ) هذا يشق قبره من عالم ( ارشكيمال ) حيث الظلمة والعتمة، فيكون
الربيع والزهور والفرح و( زروان ) هذا الدهر الذي يحوي في جوفه، ( أهورمزدا
النور) ، و( أهريمن الظلمة ) ، حيث يمزق ( اهريمن ) بطن والده لتكون الظلمة
والشر الأول، يمتلك ( زروان ) الثروة والذهب وكافة وسائل القوة، ولكن لا
يلبث أهو رمزدا أن يخرج لينقد العالم من ظلام المادية والعتمة فيكون النور،
وتكون العاقبة لأتباع ( أهورمـزدا ) ، من المتقين ثم يكون ( زروان ) الدهر
أو الزمن الذي يعود إليه كل شىء وعند اليونانيين، ( كرونـوس ) الإله الذي
يبتلع أولاده حتى لا يعيدوا ما فعله هو بوالده (أورانوس)، الذي قتله كي يصل
الى السلطة، ثم تكون العشبة التي يبلع عصارتها فيتقيأ أولاده، ثم يكون (
زيوس ) إبنه ربا للارباب ، ويكون التقيؤ رمزا لامكانية الخروج من قبضة
الزمن، ومحدود المكان.
وفي أدبنا العربي المعاصر، وإن استخدم المعاصر هنا بذات المعنى الذي نحا
إليه ( بندتو كروتشة )، عندما قال إن كل التاريخ تاريخ معاصر، إذ عندي أن
كل الأدب أدب معاصر كذلك، بل ربما نحن العرب، باعتبارنا شعبا تاريخيا،
فإننا أكثر الناس ربما، قدرة على أن نعيش التاريخ، بله أن نعاصره ويعاصرنا،
أقول عندنا نحن العرب كان الزمان والمكان في قمة الوعي، فالمكان والزمان
يمثلان في عقل العربي حالة امتلاء لا خواء، وإن كان هنا من نعي على الشعراء
العرب أنهم كانوا يبدأون القصيدة بالوقوف على الأطلال، فإن المكان عند
العربي لم يكن طللا، بل إنه ممتلىء حيوية وحياة، فإذا خاطب المكان أو
الزمان فإنما هما متجسدان تماما عبر أحبائه وأصدقائه وخلانه، فالوقوف
على المكان، لا الأطلال، هو وقوف على هذا الحضور المنعم توهجا وحرارة،
والممتلىء حياة وحركة، بل إن الفصل بين المكان والزمان لم يكن موجودا في
ذهن العربي، وربما هذا آخر ما حلت إليه نظرية المكان زمان النسبية، وإذا
أردنا أن نستخدم الدلالة الاسطورية وحقنا أن نفعل، فالأسطورة ليست سوى حدث
تاريخي دخل عليه جانب الخيال، ليكمل الحدث، ولعمري إن الابداع في قمته، هو
هذا الجهد الذي يبذل من أجل تقديم الواقع في أجمل صورة تقربه الى الحقيقة،
إن الابداع هو هذا التواصل المحكم بين الذاكرة والتصور، فإذا ما فقد
الانسان قدرته على التذكر والتصور فقد ميسمه كونه إنسانا أصلا.
( انكي )، إلهة الأرض في السومرية القديمة، ليست سوى اقتراح لآن، ( وكي )،
أي لآن الزمان، وكاف المكان، وكما ذكرت، ولست مبالغا، إن العقل العربي
في قمته وعيا وحضورا، وهو يقبض صيرورة وسيرورة الزمن، إذ العقل هو عقل لهذه
الصيرورة، وعقل الحركة على سبيل التجريد، فتكون جزئية الزمن (آنا) ، حتى
إذا اراد أن يعرفها، أضاف إليها (الـ) التعريف، فأضحت الآن.
ثم يكون الأدب، الذي هو دعوة للطعام في أصل الاستخدام، ومن الأدب كانت
المأدبة، حتى إذا راعينا القلب الوصفي، كان الدأب، والأبد، فالأدب وأب يحقق
الأبدية، أو على أقل يحاول أن يعرض تجلياتها، ولان هذا التجلي يقع في
القمة، هنا يكون من الاوابد التي لا تستنزل عنوة وقسرا، حيث التكلف
والاصطناع، بل تأتي ( ثنثال أرنيثال )، تأتي سهدا رهوا كما نقول، وإن كل
ذلك لا يخرج عن دلالة البدء، ومن البدء كان المبدأ، ومن يتخلى عن المبدأ
حتى عن تحقيق الأبدية وهو أعجز ما يكون عن الدأب.
المكان والزمان في فكر وأدب
معمر القذافي
يحوي كل هذه المعاني التي أشرت إليها، فهو كاتب وأديب عربي لا محالة، وإن
كانت العروبة عنده حالة وضوح وبيان، هنا تكون العروبة رسالة إنسانية، إذ حد
الانسان البيان، خلق الإنسان علمه البيان.
إن الوضوح والبيان نقيض المباشرة، وبعبارة أخرى يرفض وجود الوساطات
والزلفى، فالمباشرة في فكرة
معمر القذافي
وأدبه أصلية تماما، وإن كانت الأصنام والأوثان تعقب بين البشر والله، فإن
كافة الأصنام والأوثان المعاصرة، لا بد أن تزول لتصل الجماهير الى السلطة،
ويكون حضور الجماهير حضورا محققا زمانا ومكانا، ويكون مفهوم الحضارة هو
مفهوم الحضور سواء بسواء.
إن الحضور لا يكون في عالم اليوتوبيا حيث لا مكان ولا زمان، فالأرض، المكان
تجسد في فكر
معمر القذافي
المعادل الموضوعي، إذ لم تكن المعامل الموضوعي، فالأرض كما يقول في الكتاب
الأخضر ليست ملكا لأحد، لأن الأرض ليست وجودا فيزيائيا بل الأرض هي
التاريخ، هي امتزاج الإنسان بالوعي والفعل، ويكون الزمان والمكان الظرفين
الذي يتم داخلهما الفعل، بل يتحول الفاعل عند
معمر القذافي
الى بطل تاريخي، أي بطل يتجاوز محدود المكان والزمان ليكون كل المكان وكل
الزمان.
والواقع عند
معمر القذافي
ليس الحقيقة، وهذه لعمري دقة قل أن يتنبه لها إلا القليلون، فهو عندما يقدم
السلطة الشعبية المباشرة عن طريق المؤتمرات الشعبية واللجان الشعبية فيقول
هذه هي الديمقراطية من الناحية النظرية (المعينة) أما من الناحية الواقعية
فإن الأقوياء دائما يحكمون، ونظرية الأقوياء تقوم على قلب مفهوم الزمان
والمكان ليكون الجزئي هو المطلق، والواقع هو الحقيقة، ومن ثم فإن المتجبرين
عبر التاريخ، هم أكثر الناس عداء للتاريخ، لذا هم يسعون لانهاء التاريخ،
مثلما يسعون لتحديد بداية التاريخ، ادعاء أنهم الحقيقة المطلقة.
معمر القذافي
عاشق كبير للأرض، مثلما هو ثائر كبير، وهل الثائر الكبير إلا عاشق كبير، بل
هو الثورة إلا قدرة على تجاوز محدود المكان والزمان حيث يصبح الإنسان
والمكان والزمان وحدة واحدة، رافضا بذلك الشرك المبنى في المكان والزمان
والانسان، والذي يؤدي بداهة الى شرك عقدي.
إن من يقرأ ( المدينة ) ، ثم (القرية.. القرية ) ، و ( الأرض.. الأرض )، و(
انتحار رائد الفضاء ) ، يدرك تماما لماذا يرفض
معمر القذافي
المدينة، فالمدينة كابوس الحياة، المدينة حشر معيشي وجدت الناس فيه
بالضرورة.. المدينة مقبرة الترابط الاجتماعي.. كلما تقدمت المدينة وتطورت
وتعقدت وابتعدت عن الروح الودية والاخلاق الاجتماعية.. المدينة مجرد حياة
دودية بيولوجية يحيا فيها الانسان ويموت بلا معنى، بلا رؤية، بلا ترو، يعيش
ويموت وهو داخل قبر في الحالتين.. المدينة تقليعة.. صيحة.. انبهار، تقليد
غبي، استهلاك لعين.. مطالب بلا عطاء مجد، وجود بلا معنى. المدينة ضد
الزراعة.. تبنى على الأرض الزراعية، تقتلع الأشجار المثمرة، تجذب الفلاحين
وتغريهم ليتركوا الزراعة، ويتحولوا الى أرصفة المدينة تنابلة كسالى..
عاطلين متسولين.
المدينة ضد الانتاج، لأن الإنتاج يتطلب جهدا وصبرا، والمدينة بطبيعة حياتها
ضد الصبر وضد الجدية والجهد.
المدينة تتمدد في كل اتجاه، وليس لما تنشده حدود.. فهي تتطحلب على كل شىء
حولها، وتفرد اخطبوطها لتنشر سمومها، وتقتل الهواء النقي.
المدينة تقتل الحس الاجتماعي والمشاعر الانسانية.
المدينة طاحونة لساكنيها وكابوس لمشيديها.
أطفال المدينة أتعس من كبارها فهم من ظلمات الى ظلمات من ظلمات ثلاث الى
الرابعة، منازل المدينة ليست بيوتا بل هي جحور وكهوف.
القواقع هي الناس وأطفالهم المساكين يضغط ضدهم كل ما هو في المدينة. في
المقابل تكون القرية والريف عالما آخر.
لا ضرورة إطلاقا للقمع والزجر والضغط العكسي هناك تشجيع وتمجيد بالانطلاق
والظهور إلى النور.. هناك تحاكي الطيور والزهور في التحرر والتفتح.. لا
شوارع.. لا قاذورات.. ولا مجهولون، كل أهل القرية والريف مترابطون حتى
النهاية.
ثم يكون التحريض في (مقر المدينة)، للعقلاء والرحماء والإنسانية أن يرحموا
الأطفال، ولا يخدعونهم بالعيش في المدينة.. ولا يقبلوا أن يحولوا أولادهم
إلى فئران من وإلا جحر إلى جحر، من حفرة إلى حفرة ومن رصيف إلى رصيف.
وعلى المجمل فان المدينة تافهة وقاسية على ساكنيها ويكفي أنها تجبرهم على
قبول اللامعقول.
القرية القرية، الأرض الأرض، يقدمها الكاتب والمفكر معمر القذافي على
سبيل الندبة، يحرض على العودة الى القرية والتمسك بالأرض، يحشد كل الصور
والأخيلة والتعابير لصالح القرية والأرض، فكل ما ذكره في المدينة يكون ضده
في القرية.. والأرض.. إن لاقرية والأرض هي الطبيعي مقابل الصناعي، والطبيعي
عند معمر القذافي ليس الفيزيقي، بل الطبيعي هو أصل الأشياء وطبعها، يبدأ
القرية.. القرية.. بندائه الحار والمتلهف والمحرض، الفرار.. الفرار
من المدينة، ابتعدوا عن الدخان، ابتعدوا عن ثاني أوكسيد الكربون الخانق..
ابتعدوا عن أول أوكسيد الكربون السام، ابتعدوا عن الرطوبة اللزجة، ابتعدوا
عن غازات الخمول والسموم. إن المشهد الذي يعرضه الكاتب تصور لنا حالا حسية
تماما، وكأننا فعلا نشاهد المدينة تحترق، والدخان السام ينبعث منها مهددا
بالمدن، والرطوبة اللزجة من امتزاج المياه والسوائل، وكل الأشياء اللزجة،
إنه بحق منظر مقرف ومنفر. ثم يستمر في التحريض والتحذير والدعوة للفرار،
يمتزج الحس بالمعنوي تماما، ليصبح كل ما في المدينة سأم وملل وقرف، بل وموت
على أنه لا يحرض الناس داعيا الى يوتوبيا اللامكان ولا زمان، كما أشرت، بل
المكان والزمان يتحققان في القرية، حيث يرون القمر لأول مرة، يشاهدون
الثريا الطبيعية لا الثريا الصناعية المصنوعة من الرمل والقابلة للكسر.
القرية هادئة .. ونظيفة.. ومترابطة.. الناس يعرف بعضهم بعض، والمرء هناك
يحسب الف حساب لسمعة عائلته وقبيلته ولقبه، وأي سبة يرتكبها الانسان في
القرية لا تنتهي بيومها كما في المدينة، والتي تسجل عادة ضد مجهول، كثرة
ساكني المدنة واختلافهم ولا تنتهى حتى بنهايته، بل تبقى عالقة بأسرته ورهطه
وقبيلته أمام بقية العشائر والقبائل، ثم يحشد الكاتب بالاضافة الى نماذجه
الحسية والمعنوية آيات قرآنية يؤكد أن الشمس والقمر والنهار والليل والتي
هي آيات على وجود الخالق، لا تدرك إلا في القرية، أما سكان المدينة فكأن
هذه الآيات ليس لهم أصلا,.
في انتحار رائد الفضاء يصور الانسان العصري المنكود الذي يحاول أن ينفذ من
أقطار الأرض الى السموات، والذي يعتقد أنه امتلك السلطان، يتحول كل شىء
عنده الى ارقام وحسابات، فالأرض ليست كما يقدمها الكاتب معمر القذافي، بل
هي قياسا في علاقتها مع الكواكب والنجوم، وحوار رائد الفضاء مع الفلاح يكشف
مأساة الانسان الصناعي الذي عاد الى الأرض، ولكن فقد علاقته بها، يتحدث لغة
غير لغة البشر، ويتفوه بأرقام لا تجد لها صدقا من حياتهم، فالفلاح الذي هو
رمز المنتج يترك رائد الفضاء الذي لا يلبث أن ينتحر، ويكون انتحار رائد
الفضاء رمزا لهزيمة المصنع والتصنع والرقمية والتشيؤ والتي هي من خصائص
المدن والمدينة، امام الطبيعة والحياة والانتاج والحضور، أو كل هزيمة
المدينة أمام الحضارة.
(مهدي امبيرش)
|