منصور أبوشناف

 تحــريـــــر الأمكنـــــــة

 قراءة في المجموعة القصصية

 القرية .. القرية.. الأرض .. الأرض ..

وانتحار رائد الفضاء

******* 

        ظل هاجس الحرية هاجس معمر القذافي الأول.. إنها قضيته الأولى، محور تفكيره وإنتاجه الفكري وممارسته السياسية والثورية والأدبية، فهي الموضوعة "التيمة" الأساسية التي ينطلق منها هذا الإنتاج، بل يتحول التنظير الفكري والإبداع الأدبي الى ممارسة للحرية، يقوم بها "القذافي" عبر الكتابة والتفكير، وتتحول المواضيع الأخرى الى  روافد لهذه "التيمة" إلى وسائل لتحقيقها أن الاشتراكية والديمقراطية السياسية والثورة والكتابة ليست إلا وسائل لممارسة الحرية.

       والحرية عبر ما قدمه القذافي هي ذلك الفضاء اللامتناهي، الذي يمكن الإنسان من ممارسة حياته الطبيعية بكل القدرات الكامنة فيه لاغيا اغتراب الإنسان عن محيطه لينتهي اغترابه عن ذاته، لتنتهي الثورة بتحولها من فعل استئنائي طارئ تقوم به وتحرض عليه قوة اجتماعية استثنائية إلى فعل شعبي يومي يمارسه الجميع، ولتنتهي الاشتراكية والديمقراطية السياسية بتحولها من قوانين وأحكام إلى أعراف اجتماعية وسلوك يومي فردي طبيعي ببساطة أنها إزاحة الحواجز المصطنعة والحائلة بين الإنسان وطبيعته، وبين الإنسان ومحيطه الطبيعي ليقوم بدوره الطبيعي الذي خلق من أجله، ليتناغم إيقاع حياته مع إيقاعات الطبيعة، ذلك الحالم الذي ظلت الفنون والآداب تسعى ومنذ كهفيات ما قبل التاريخ وحتى اليوم لتحقيقه أدبا ورقصا ورسما وموسيقى وتعبدا وصلاة.

       هناك لا ضرورة إطلاقا للقمع والزجر والضغط العكسي على هذا النحو تتجلى ملامح ذلك المكان.. فضاء الحرية ذاك.. ويرد وصف المكان، هذا في قصة المدينة. إنه المكان الحر الطبيعي الذي يتوأم فيه الإنسان مع شروطه ويحيا متناغما مع نواميسه الطبيعية.

       إن التعرف على المكان الحر هذا لا يتأتى إلا بالتعرف على نقيضه أولا عبر المجموعة القصصية  القرية .. القرية.. الأرض .. الأرض .. وانتحار رائد الفضاء.. فأول مواجهة مع المكان النقيض تتم في قصة المدينة ، ثم القرية لتصل ذروتها في الفرار الى جهنم، إن موضوعة "المكان" المحرر والمكان النقيض هي أداة الربط الأولى التي تربط قصص المجموعة كاملة، فالمكان النقيض، أو المكان الذي دمرت كل عناصره الطبيعية لم تعد الحياة فيه بالتالي طبيعية، هو كابوس الحياة وليس بهجتها كما يظن.. إنه (حشر معيشي وجدت الناس نفسها فيه بالضرورة). هو مقبرة الترابط الاجتماعي، من يدخله يسبح عصبا فوق أمواجه.. إنه مكان يحيا فيه الإنسان ويموت بلا معنى.. بلا رؤية.. بلا ترو.. فيه يعيش ويموت وهو داخل قبر.. تتشوه الصورة الطبيعية، وتنعدم المرآة الطبيعية، ولا ترى فيه النجوم ولا القمر ولا الشمس، إنه المكان المغترب عن طبيعته، ولا ترى فيه المكان عن طبيعته، فهو خلية قائمة مريضة.. طاحونة لساكنيه.. كابوس لمشيديه.. إنه المكان الملوث بثاني أوكسيد الكربون الخانق، وأول أوكسيد الكربون السام.. مكان الرطوبة اللزجة وغازات الخمول والسموم.. مكان تسجنه لا جدران والدهاليز والأبواب المقفلة، مكان يتشوه فيه السمع بالضجيج والضوضاء مكان النظر المحدود والجهد المهدود..

       إن هذا المكان النقيض للمكان الطبيعي والذي يحدده كاتب المجموعة القصصية القرية.. القرية.. بالمدينة، هو ذلك المكان الذي تم تدمير كل صفاته الطبيعية ليتحول إلى مكان مصنوع، بكل ما ينتج عن ذلك من تشوه وخراب ليس للمكان فقط، بل للكائنات هذا المكان، من بشر وحيوانات ونباتات.

       على هذا النحو يصبح تحرير المكان وفك قيوده من أجل عودته لطبيعته مهمة تخص كل البشر، لأن تحريره إنقاذ للحياة كاملة. (إذا خربتم أشياء أخرى قد لا تخسرون ولكن إياكم أن تخربوا الأرض لأنكم عندئذ ستخسرون كل شيء... ) .

      إن هذا المكان المغترب عن طبيعته، سجين الأشياء المصطنعة وضحيتها يصبح وحسب التفاصيل التي ترد في قصص المجموعة حاضن كل الأمراض والتشوهات الإنسانية، فالأمراض العضوية غشاوة البصر، فقدان التروي، التوترات العصبية، تشوه السمع والبصر، وبالتالي تشوه الذوق موت الروح، الانبهار والتقليد الأعمى، إدمان الاستهلاك الشره المهلك.. الوسخ.. موت الحس الاجتماعي والمشاعر الإنسانية وخلق التبلد واللامبالاة .. التكرار والرتابة والملل قمع الطفولة وزجر حاجاتها الطبيعية للانطلاق.. كلها نتاج للعيش في هذا المكان المغترب عن طبيعته، هذا المكان النقيض المستعبد الذي يتطحلب على كل شيء حوله ويفرد إخطبوطه لينثر سمومه ويقتل الهواء النقي يبدو وعبر سرد "القذافي" طوفان يحتاج كل شيء، زاحفا بجنود التلوث والميكنة على كل ما هوي طبيعي حر.

       قد يبدو هذا السرد الحر وللوهلة الأولى سرد يبحث عن البلاغة و الصنعة الأدبية المتعارف عليها ولكنه وعند التعمق فيه تتجلى بساطته وقوله للأشياء ببساطة و دونما تصنع ولا صنعة، إنه أشبه بقرع الأجراس بسيط وسهل ولكن بلاغته ليست في القرع، بل في الرنين الذي تطلق أجراسه ودلالات ذلك الرنين.. إن السرد الحر الذي لا حدود له والذي لا تحكمه القوالب هو أداة القذافي المهمة لتحقيق ذلك التناقض والتناغم مع المكان والإحساس به.. فحريته وتلقائيته (حرية وتلقائية السرد) تبدو النقيض وأيضا المبضع الذي يقوم بعملية تشريح لهذا المكان الضد، هذا المكان حاضنة الأمراض الجسمية والنفسية والحضارية.. وحرية السرد وتلقائيته تبدو التناغم والمؤكد للمكان الحر. المكان الطبيعي والمدافع عن وجوده وبقائه في وجه خراب المكان الضد..

       اغتراب المكان عن طبيعته يؤدي الى اغتراب الإنسان أيضا، فتحول الإنسان عن طبيعته ليتكيف مع شروط المكان المغترب والمخرب يجعله كائنا آخر غير الكائن الطبيعي (العيب في طبيعة المدينة ذاتها بما تفرضه على الناس من تكيف تلقائي تدريجي حتى يصبح سلوكا معتادا بمرور الزمن في المدينة ). إن المكان النقيض أو المكان الضد وهو يتطحلب على المكان الطبيعي الحر يحول الإنسان الى كائن مغترب عن ذاته أولا وذلك عبر تكيفه مع المكان المغترب.

       إن مقاومة الإنسان لاغترابه عن ذاته هي تأكيد من جهة أخرى لاغترابه عن المكان (وإن كنت حاشرا لنفسك حديثا في المدينة، ولست من ساكنيها الأوائل والمتكيفين بكيفها، فأنت أضحوكة المدينة في كل الأحوال... وإن كنت تريد التمسك بما عندك من معاني وقيم وسلوك غير مديني تصبح شاذا ولا تجد مع من تتفاهم..) إن معركة الإنسان ضد هذا المكان النقيض للمكان الطبيعي الحر تنتهي غالبا بهزيمته، لأن الآخرين قد أصبحوا جزءا مهما من تأكيد هذا النقيض (وعندما تغير حالك للتكيف مع المكان النقيض) لكي تصير مدينيا.. تصبح ركيكا) لذا يتحول السلوك الإنساني الطبيعي إلى سلوك غريب ولا معقول، سعيا للتكيف مع لامعقول المكان النقيض (ما أقسى المدينة وأتفهها على ساكنيها المساكين )، تجبرهم على قبول اللامعقول أو هضمه وابتلاعه غصة على أنه مقبول ومعقول وليس أدل على ذلك من تلك الاهتمامات التافهة التي تفرضها المدينة على أهلها. الخروج من هذا المكان النقيض أو بتعبير أدق "الفرار" فيه يبدو الحل الوحيد الذي يقدمه سرد هذه المجموعة وهو ما تبقى للإنسان من سلوك طبيعي للحفاظ على الذات والنوع "الفرار" إن ما تحمله الكلمة من دلالات تعبر عن الرعب والفزع والشعور بالتهديد وبالانقراض يعبر بشكل واضح عن اليأس من إنقاذ هذا المكان (الفرار.. الفرار من المدينة .. ابتعدوا عن الدخان.. ابتعدوا عن ثاني أوكسيد الكربون الخانق.. ابتعدوا عن أول أوكسيد الكربون السام.. فروا من جو الكسل والكساد والسام والملل والتثاؤب.. فروا من كابوس المدينة).

       يبدو المكان النقيض للمكان الطبيعي مملكة للموت يتحول الى عالم سفلي، حشر فيه الانسان وفرض عليه التكيف معه وهذا التكيف ليس إلا مواصلة لقتل.. للمكان إن علاقة الانسان بهذا المكان علاقة جدلية، فكلاهما القتيل القاتل.. (الأرض أمكم حقا.. فلا تعقوا أمكم.. لا تقطع شعر رأس أمك.. ولا تقطع أصابعها أو تمزق لحمها أو تجرح جسمها). ثم (لا تبني أثقالا فوق صدرها ولا تعبد طينا أو حجرا فوق ضلوعها، ارحموا أمكم.. لأنه إذا فرطتم فيها، فلن تجدوا أما بعدها).

       إن استخدام مفردة (الأم) للتعبير عن الأرض وتصوير التخريب البيئي بأنه تقطيع وتشويه وتخريب لجسدها أجراس إنذار ترن لإنقاذ الذات عبر إنقاذ الأرض.. ثم يقدم الكاتب تفاصيل هذا القتل بشكل مباشر وصريح بعد تقديمه البلاغي الأول (إذا بلطنا وجه الأرض أو "زفتناه" أو عبدناه.ز أو "ملعقناه" نكون قد قتلنا الأرض ولم تعد أرضا معطاء أو مفيدة، فهي عندئذ قطران وزفت وبلاط ورخام وهذه المواد لا تعطى شيئا لأنها لا تنبت زرعا أو عشبا أو تقطر ماء، فهي غير مفيدة للإنسان أو الحيوان.. إذن هي ارض قد ماتت، فلا تقتلوا الأرض..)

       الموت إذن بالنسبة للكاتب هنا هو توقف المكان عن أن يكون منتجا ومفيدا للإنسان. فالأرض وحسب ما يقدم الكاتب خلقت من أجل هذا الكائن.. من أجل الإنسان. وهو إذ يقتلها يمارس انتحارا عابثا (فساد الأرض هو العبث بها وتحويلها إلى شيء آخر غير تربة صالحة للماء والغذاء) بل إن إمكانية إيجاد بديل لها تبدو مستحيلة، فالفرار من الأرض بعد تدميرها يبدو شكلا آخر من أشكال العبث، فبعد طواف رائد الفضاء في الكون (لم تبق إلا حقيقة أن الأرض وحيدة فريدة وأنها مصدر الحياة). و(لهذا عاد الإنسان من طوافه الخارجي الى سطح الأرض).

       إن الفرار من المكان النقيض الذي يحث عليه النص لا يعني الفرار من الأرض فذلك انتحار وعبث حسب ما يقدم النص (إنه الفرار إلى المكان الحر.. المكان الطبيعي. وحتى الصحراء القاسية والتي قد نراها جهنم تظل أفضل من المكان النقيض وأكثر قابلية للحياة الطبيعية . إن الطريق إلى جهنم مفروشة بالبساط الطبيعي على امتداد الأفق وأنا أشق طريقي نحوها بفرح وغبطة، وبعد انحسار البساط وجدتها مفروشة بالرمل الناعم، وصادفتني أسراب من الطيور البرية من نفس الأنواع التي تعرفونها، بل وجدت بعض الحيوانات المستأنسة ترتفع وتقل) إن المكان الحر.. المكان الطبيعي حتى الأشد قسوة وتصحرا يصبح ملاذ الحياة هربا من المكان النقيض. والعجيب حقا هو أن الحيوانات البرية وجدتها تأخذ طريقها الى جهنم قبلي فرارا منكم، فحياتها في جهنم وموتها فيكم..) ويضيف النص (وجفلت الحيوانات وغاصت في أدغال جهنم طلبا للنجاة وفرارا من الإنسان) الجحيم الحقيقي هو المكان النقيض كما يؤكد النص (اهجروا الجحيم الطبيعي الأرض وفروا سريعا). 

      المكان الحر.. الطبيعي هو الأرض التي لم يجتاحها المكان النقيض بعد ولم تصل إليها ملامح المكان المصنوع، والتي تدعونا القرية.. القرية.. والأرض.. الأرض.. وانتحار رائد الفضاء . للحفاظ عليها هي (ملكوت الله الواسع المتألق الرائع) حيث تشاهدون الثريا الطبيعية وتحتقرون الثريا الصناعية المصنوعة من الرمل، والمشتراة من السوق والقابلة للكسر والتلف في أي لحظة، والمتسخة بالذباب والعنكبوت في جحور المدينة المسماة شققا ومنازل..

       (انظروا في الريف المصابيح الربانية المعلقة في السماء وليس في سقف قبر متسخ داخل المدينة). إذن المكان الطبيعي الحر من كل الأصفاد هو مكان الحياة، بل هو الحياة نفسها وأيا كان المكان المصنوع غير الحر فهو الموت والقبر.

       إن اغتراب الانسان عن المكان ينتفي هناك ويتحقق ذلك التكامل والتناغم بينه وبين بيئته وبالتالي بينه وبين ذاته (أهل القرية لا يعانون من عذاب التعقيد والتوتر واللهث وراء المثيرات، وهكذا فإن حياتهم هادئة وهنيئة، فهي بريئة من آلام الشهوات..).

 

منصور أبوشناف


 

جائزة القذافي الدولية لحقوق الإنسان - جميع الحقوق محفوظة   © 2005

جائزة القذافي الدولية لحقوق الإنسان