الأبعاد الدلالية في الخطاب القصصي

للقائد الأديب معمر القذافي

من خلال مجموعته

القرية القرية .. الأرض الأرض .. وانتحار رائد الفضاء

 

 

د. نورالدين السد

الجزائر - 

  

       إن قصص الكاتب معمر القذافي تتميز في سياق جنسها الأدبي أسلوبيا بتوظيف معيار تشكيلي وجمالي مكنها من ضبط خصوصية لها طابعها الخاص بها.

 

       وذلك بالنظر إلى البناء السردي الذي يوظف مكونات الخطاب القصصي بطريقة تتفاعل فيها مختلف المسارات والوقائع لتكون خطابا متسقا بنيويا ووظيفيا وموضوعيا.

 

       والملاحظ أن الخطاب القصصي في كتاب:

 

(القرية القرية، الأرض الأرض وانتحار رائد الفضاء)

 

 يعتمد توظيف ضمير المتكلم ساردا ميهمنا على بنية الخطاب هادفا بذلك إلى توحيد المساق الكلي للنص، ومقدما إياه وفق رؤية السادر في وحدة سردية كبرى.

 

       فالسارد المهيمن يقدم مسرودا خطابيا في شكل قصة تستخدم أداة لتبليغ رؤية في واقع الإنسان والزمان والمكان، وعبر ذلك يسهم المسرود له في إنتاج المعني وبناء الدلالة محكوما بضوابط النص وصيغه السردية، وقد يخيب الخطاب أفق انتظار الملتقى لأن السارد المهيمن يرسم مفارقات تخالف المعيار والمألوف، فالسارد في قصة (المدينة) يملك حرية كبيرة في مساحة الخطاب وعبر هذه المساحة يقدم رؤيته في مسلك الآخرين ممن أفقدتهم المدينة كينونتهم وعدلت بهم عن حقيقة وجودهم.

 

       ويظهر السارد في هذا السياق تصوره للمدينة ومواقفه منها، باعتبارها فضاء قامعا للفطرة الإنسانية، وعاملا من عوامل القضاء على منظومة القيم النبيلة التي شكلها الإنسان عبر مسار تاريخي طويل محكوما بتطور نظام المجموعات البشرية، ولعل أهمها الفاعلية في الحياة وإعطاء الوجود الإنساني معنى وإدراك الجدوى مما يقوم به من أعمال، وكل ذلك يشكل إطار القيم التي تؤيدها فطرة الإنسان، وتعد جوهر اجتماعه، وما أنتج وعيه عبر العصور.

 

       والملاحظ أنه من بداية قصة (المدينة) إلى نهايتها: والسارد ناقم على وضع الإنسان في هذا الفضاء المكاني المشتمل على وقائع وأحداث تتنوع بتنوع الشرائح الاجتماعية ووظائفها، يقول السارد في قصة (المدينة) :

(  المدينة منذ قديم الزمان، ما بالك الآن..! هي كابوس الحياة وليست بهجتها كما يظن.. ).

 

       ومن خلال استخدام أسلوب الإقناع والحجاج الذي يتبناه السارد بالاستناد إلى توظيف البنى المتضادة، ساندا موقفه بعرض الدلائل على قمعية المدينة ومظهرا علامات القبح فيها، وضديتها للحياة الآمنة المستقرة، فلا استقرار في القيم ولا استقرار في المعاملات، فهي صدامية مشوهة للفطرة الإنسانية.

 

       يقول السارد: "ولكن المدينة لم تؤسس للرفاهية أو السرور أو المتعة أو البهجة أبدا.. المدينة حشر معيشي؟" والسارد يوظف الثنائيات الضدية في مجموع القصص قاصدا من ذلك إظهار الفروق بين المدينة المتوحشة والقرية أو الريف المؤنس والآمن.

 

       ففي قصة (المدينة) نجد فضحا لتدهور القيم الإنسانية لأن (  المدينة مقبرة الترابط الاجتماعي  ) صفحة.9 وأخلاقها النفاق  " . ويسند السارد رأيه هذا بتضمين الآية الكريمة "ومن أهل المدينة مردوا على النفاق" قرآن كريم. فالمدينة كلما تقدمت تعقدت وابتعدت عن الروح الودية والاخلاق الاجتماعية.

 

       ويبلغ السارد حدا من الانفعال يعلن فيه عن احتقاره سلوك المدينة المبنى على المنفعة بعيدا عن كل الاعتبارات الإنسانية الأخرى، فهو يقول:

 "المدينة مجرد حياة دودية (بيولوجية) يحيا فيها الإنسان ويموت بلا معنى بلا رؤية بلا ترو، يعيش ويموت وهو داخل قبر في الحالتين.." السارد يضمن خطابه خطابا مسكوتا عنه وهو أن وجود الإنسان له معنى لا بد من إدراكه، ووفق هذا لا بد من أن يعطى حياته معنى، ويمكن لنفسه عبر مسار كينونته رؤية، فإذا ما فقد ذلك فقد المسار من وجوده، فحياته وموته سيان.

 

       ومن يستسلم في ممارساته الاجتماعية اليومية لما تفرزه المدينة من مظاهر وطبائع يفقد جوهره، ويبتعد عما يميز خصوصيته لأنه يتحول بالاستسلام إلى مستهلك مستلب لا سلطة له على مغريات محيطه الاجتماعي، وما ينتج من مظاهر سلوكية في الثقافة والسياسة والاقتصاد والاجتماع.. وبذلك يتأكد رأي السارد الذي يبحث عن معنى للوجود الإنساني في المدينة باعتبارها فضاء، كان يمكن أن يكون  أفضل لو سخر له من أدرك جوهر الإنسان وبصره بحقيقته قصة (المدينة) والقصص الأخرى في المجموعة تحرض على التسامح في حقيقة الإنسان وتحاول إشعاره بطريقة غير مباشرة بأن الإستلاب الذي يقع فيه نابع من ضعفه واستعداده لذلك وليس من الفضاء المكاني والأطار الزماني في ذاتهما.

 

       إن السارد في قصة (المدينة) وقصة (القرية.. القرية) وقصة (الارض.. الأرض) وسواها من القصص يحاول إبلاغ الوظيفة التربوية بحكمة وحنكة وعاملا على تشكيل وعي نقدي محرض على تجاوز الاستيلاب التشيؤ وهو بذلك يسعى إلى إبراز تهافت المنظومة القيمية المشوهة لأهل المدينة، ويحاول إنقاذهم من الوقوع تحت سلطانها، على أساس من إقراره بأن طبيعة تكوين المدينة وبحكم وظائفها وما يميزها من خصوصيات تغير الطباع وتؤثر في السلوك، ومع ذلك لايرضخ لهذه الحقيقة ويعمل على التغيير إلى ما هو أفضل.

 

       إن المسرود له الدارك للحس الحضاري والعمق الإنساني المائزين للسادر المتكلم في الخطاب القصصي يدرك بأنه يريد التمكين للإنسان في كل الفضاءات والأمكنة والأزمنة ولكن بوعي وإرادة ووفق نظام يحكمه ميزان التوازن، وهو في بعض المقامات يلاطف أهل المدن دون جفاء موظفا خطابا يبعث الاطمئنان في النفوس، ويمرر عبره معاني تستشف منها نية السارد ورغبته في أن يهمين الإنسان على الظواهر التي أنشأها من أبسطها إلى أعقدها ومن أصغرها إلى أكبرها وبمختلف تجلياتها، ويوجهه إلى إمكانية استخدام قدراته لتحقيق إنسانيته وعدم استسلامه لمجموع الظواهر والوسائل المحيطة به، لأنها ليست غايات في حد ذاتها، فالإرادة الإنسانية القوية لا تقبل الاستلاب والتهميش والتشيوء والسارد في هذا المقام يدعو إلى حفاظ الإنسان على أرقى خاصية فيه وهي إنسانيته وهي ارقى ما كرم به على المخلوقات جميعا.

 

       وبأسلوب ساخر يمرر السارد خطابا ظاهرة تبرير سلوك أهل المدن وباطنه عتاب مبطن ولوم خفي، لأنهم بنوا المدينة وسكنوها وبدل أن يسخروها لخدمة مصالحهم ويحكمون تنظيمها والسيطرة عليها مارست عليهم سلطتها وفرضت اعتباراتها وطرائق التأقلم معها وذلك ما تبين عنه الفقرة الآتية من قصة المدينة:

 

       "ليس العيب في الناس ساكني المدينة أبدا.. الناس هم الناس في المدينة أو القرية، متشابهون في كل شىء تقريبا.. في القيم.. في الأخلاق.. وخاصة ابناء القوم الواحد، أو الدين الواحد.. العيب في طبيعة المدينة ذاتها بما تفرضه على الناس من تكيف تلقائي تدريجي، حتى يصبح سلوكا معتاد بمرور الزمن في المدينة.."

 

       المدينة التي يبحث عنها السارد مدينة فاضلة تحدث عنها الفلاسفة منذ القدم وشكلت انشغالا أساسيا في الفكر الإنساني، واعتنت بالتنظير لها طوائف وشرائح شتى، وشغل تنظيمها عقول كبار الساسة والاقتصاديين والاجتماعيين والعسكريين وسواهم، وستبقى المدينة فضاء خصبا يزود الفكر الإنساني ويلهمه في مختلف المعارف والعلوم والفنون.

 

       يقول السارد في قصة (المدينة).

       الناس يبنون المدنية للضرورة والحاجة.. ولكن المدينة تصير بعد ذلك كابوسا لا بد منه بالنسبة لأولئك الذين بنوها وسكنوها كل شىء في المدينة بثمن.. وكل كمالية تكون ضرورية.. وكل ثمن له ثمن مادي أو معنوي، ومن هنا تبدأ أزمة الحياة في المدينة..   )

 

       الحديث عن المدينة يتضمن بالضرورة مسكوتا عنه، وهو طرائق العيش فيها، ومن يحتلون في مدارها مقام المركز، ومن يتحركون في مدار الهامش والأطراف. والمعنى الذي يمكن إنتاجه من بنية هذا الخطاب هو البحث عن تصور بديل يقضى على ما يؤزم معنى الحياة في المدينة، وما يجعل منها فضاء مؤنسنا يحقق فيه الإنسان ذاته، ولا تصادر قيمه وأخلاقياته ولا يستلب أو يتشيأ فيفقد بذلك وجوده، وكذلك بلمح هذا الخطاب إلى إدراك جوهر الكينونة الإنسانية ويحاول إعطاء معنى للوجود الإنساني.

 

       ويلاحظ أن البعد الدلالي العام والمشترك بين مجموع القصص في كتاب:

 

(القرية القرية.. الأرض الأرض.. وانتحار رائد الفضاء)

 

هو إدانة للذين يتنصلون من القيام بمسئولية الدفاع عن الحياة الكريمة للإنسان، إنه ليس خطابا ضد المدينة والعصرنة والحداثة والحضارة بوجه عام بقدر ما هو خطاب مواجه للمدينة في تحولاتها الشرسة إلى طاحونة لساكنيها أو كابوس لمشيديها.

 

       إنه خطاب ضديد لإفراغ الإنسان من معناه، وفقدانه لدلالة وجوده كما أنه في جوهره خطاب يصنعه سارد حكيم يعرب عن موقف مؤداه ضديته لأي شكل من أشكال المسخ التي تمارس على الإنسان.

 

       ولا تكاد تخرج مجموع الخطابات القصصية في أبعادها الدلالية عن هذا الموقف الذي يشكل بؤرة دلالية جامعة، فقصة (القرية القرية) لا تخرج عن هذا التوجه، فالسارد فيها يدعو إلى الفرار من المدينة إلى القرية، لأن القرية علامة تمثل مجموع القيم الأصيلة التي أفرزتها الممارسة الاجتماعية وأثبتت جدواها في التكفل بانشغالات المجموعة وتجسيد طموحها وعلى الرغم من بساطة هذه المنظومة القيمية إلا أنها كفيلة بمواجهة أعتي المعضلات وحل أعقد المشكلات لأنها في جوهرها تعمق إنسانية الإنسان، وتعزز بعده الوظيفي وتشعره بأنه حامل رسالة، وموجود لغاية وهي بذلك تقوى ثقته بنفسه، وتححد له معالم الرضى، وتعمق عنده الشعور بالقناعة، وتحفظه من التشيؤ والاستلاب، وأغلب قصص المجموعة متضمنة لهذه الأبعاد الدلالية بصيغ متنوعة، فقصة (الأرض الأرض) وقصة (انتحار رائد الفضاء) تتضمنان دعوة إلى إعمار الكون والحفاظ على توازن الطبيعة وصيانة البيئة ورعاية نقائها، وعبر هذا التعبير يتم البوح عن عشق السارد للكون والحياة وتعبئة الإنسان بمشاعر الخير والفضيلة ليتجاوز كل ما يعيقه، ويعرقل حراكه في اتجاه الأبهى والأجمل والأطهر.

 

       إن الخطاب القصصي الذي أنجز القائد الأديب معمر القذافي يتحدث عن واقع أساسه المسلك الفطري، وهو مختلف في التصور والرؤية وفي طرائق التشكيل الفني، يتجاوز المألوف التقليدي، ويخترق المعيار القاعدي في نمط بناء القصة، ويشتغل على اللغة بإنسيابية جمالية لها من سحر الوقع في النفس ما يجعلها متألقة إنه خطاب يختزل الواقع ويقدمه بمنظور مغاير، لأنه يرى الاختزال تكثيف وشمولية، وكثيرا ما يغني اللمح عن التصريح الممل في الاعلان عن معنى الوجود الإنساني وإدانة ما يشوه بقاءه وبهاءه.

 

       إنه خطاب يتجاوز انضباط الايديولوجيات ومنظوماتها الفكرية وانضباط آلياتها لأنه يرى في الايديولوجيات سجنا وتقييدا ومحدودية في الزمان والمكان، وهو يدعو بذلك إلى تحرر العقل والروح وانطلاقهما ليسعدا بهواجس المطلق والحرية الأبدية.

 

       إنه خطاب يهدف إلى تحقيق هوية الإنسان المستخلف في الأرض بكل مسئولية وأمانة، وينتصر لانسانية الإنسان ليتجاوز كل الظواهر التي تشوه نقاءه وتعكر عفويتهن وعبر هذا الاختيار الواعي المدرك لجماليات القص وفعله في الذات المتلقية، تتم الدعوى إلى تجاوز الراهن المتخلف في المسلك الإنساني، والعمل على موقعه الإنسان المقام المناسب له، وذلك بتحقيق قيم الخير والعدل والفضيلة والابتعاد عن وهم التجبر ومسلك الهيمنة المستغل والمبتذل.

 

       إن صورة الإنسان النموذج، والمثال المكتمل في السلوك والطباع في قصص القائد الأديب معمر القذافي هي صورة للانسان العامل الجاد والعادل الفاضل والقائم بما أنيط به من مسئولية فيما يسر له، وهو الحريص على إعمار الكون والحفاظ عليه من التلف والتشويه والقادر على تحقيق مبدأ التوازن في ذاته وفي محيطه.

 

 

 

 

د. نورالدين السد

 


 

 

 

جائزة القذافي الدولية لحقوق الإنسان - جميع الحقوق محفوظة   © 2005

جائزة القذافي الدولية لحقوق الإنسان