الدلالة المفارقة للمكان في الخطاب الأدبي
للقائد، المبدع، معمر القذافي.
الدكتور/ عثمان بدري
عضو المجلس الأعلى للغة العربية.
أستاذ الأدب والنقد الأدبي الحديث
بجامعة الجزائر.
*****
1ـ
مدخل:
1ـ 1: قد يبدو الأمر بسيطا لو كنا بصدد كاتب تواتر "احترافه" لفن القصة
القصيرة، كما عهدناه نظريا وتطبيقيا، في الأدب العربي، القديم أو الحديث أو
في الأدب الإنساني العالمي، القديم والحديث، أيضا، في ثوابته ومتغيراته(1).
وقد تضيق ـ إلى حد التلاشي ـ مساحة المنزلقات النقدية التي لا تخلو منها أي
قراءة "نقد/ أدبية" جادة تصف وتفسر وتؤول هذا العمل الإبداعي أو ذاك لو كنا
بصدد "معاينة" نصوص إبداعية قصصية قصيرة، تواترت معياريتها من حيث الاتجاه
الفني والفكري الذي يؤطرها: (واقعي ـ رمزي ـ رومانسي ـ نفسي ـ وجودي،
الخ..)، ومن حيث "التقنيات" السردية: (طبيعة اللغة ـ وظيفتها ـ الشخصيات ـ
الأبعاد المكانية والزمنية، الخ..)، ومن حيث المواقع الأيديولوجية
المتماثلة أو المتعارضة أو هما معا، الخ..
1ـ 2: إلا أن الأمر هنا يبدو ـ أثناء العتبة الأولى للقراءة، على الأقل ـ
على غير ما ألفنا وتعودنا، وربما على نحو يعوم فيه أفق توقعاتنا، وإذ بقدر
ما تستقطب هذه الأعمال القارئ داخل نسيج خطابها الجزئي: (القرية.. القرية)
(الأرض.. الأرض)، مثلا، أو الكلي: (كل الأعمال)، إلى الحد الذي يصبح فيه من
بين مشمولات خطابها، بقدر ما تجعله يتوجس خفة من التلاشي فيها، ليفقد بذلك
مسوغ القول النقدي التحليلي عن قولها الإبداعي التركيبي ما دامت "لا تعادل"
إلا نفسها.
1ـ 3: ولكن مهلا.. فليست العتبة الأولى للقراءة "النقد/ أدبية" إلا أفق
"استطلاع" أولي يقتضي المراجعة والتعزيز بما يعزز "الاستكشاف"، وقد يرشده
ويعمقه ليجعل منه محلا "للاكتشاف" الذي يغري بالتقدم والاستزادة في العطاء
الفني الذي يخصب ويزكو كلما تعددت وتنوعت وتعارضت القراءات، خصوصا إذا تأتى
التحكم في الانضباط النقدي، معرفيا ومنهجيا وتقنيا، كما يتضح ذلك- بمهارة
لافتة- في طبيعة وبناء العناصر الفنية، الكلية أو المتفرعة التي تنتظمها
المحـاور الأربعة لفعاليات هذا الحدث الثقافي العربي، النوعي، المستظل
بأطروحة: "ندوة معمر القذافي كاتبا مبدعا".
1ـ 4: وفي هذا السياق، وعلى غير المألوف- مرة أخرى- فإن الأعمال الإبداعية
المقترحة موضوعا لهذه الندوة، ليست من نوع الكتابة المؤطرة بمصفوفة من
"المعايير" التي تسعى فيها اللغة المنتجة لها إلى البرهنة على مدى تحكم
الكاتب في بناء العناصر والتقنيات السردية بخصوص ما تواتر التعارف عليه
مرتبطا بمقال ومقام "القصة القصيرة"، أو التي تسعى إلى المحاجة بشمول وعمق
وأصالة "المنظور"(2)
(perspective)
المركب، ثقافيا، اجتماعيا، سياسيا، حضاريا، لشخصية مسؤولة، مسؤولية
استثنائية مركبة، فحسب، وإنما هي نوع من الكتابة الإبداعية التي بقدر ما
تتأبى عن التأطير النقدي المعياري المغلق، بقدر ما تقترح على المتلقي
استقبالها التلقائي، العفوي، الذي يعادل تلقائية وعفوية وحرية رؤية مبدع
يدرك بمشاعره، ويشعر بمداركه حجم ونوع التناقضات والمفارقات الحادة
المقلوبة، التي جعلت فضاء حياتنا الواقعية المكانية والزمنية أو
"الزمكانية"(3)(Chronotope)
يتضخم ويتراكم في الكيان الهندسي، العددي، ويضيق بنا إلى حد التلاشي في
استشعار "الكينونة" واستجلاء "الهوية" واستشفاف "المعنى" في الانتماء
الوجودي، بل التجذر الروحي في الأرض وثم الأرض. وفي هذا الإطار المفتوح على
مفارقة "الكيان" # الكينونة، لا يجد القارئ حرجا في التأطير النقدي لهذه
الأعمال، على نحو مرن ومفتوح يجعله يعبر بها من خصائص نوع أدبي إلى آخر،
دون تراتب تفاضلي، معياري، إذ يمكن أن نجد فيها ما يسوغ اقتراح وصفها بـ
"القصة المقالية" التي تؤطرها وتهيمن عليها "وجهة نظر"(4)
(P
oint de vue)،
كلية وثوقية، يتم تمثيلها والتعبير عنها من موقع نموذج "الكاتب العالم بكل
شيء"، الذي يهيمن صوته على كل ما عداه، حتى لو تعلق الأمر به هو نفسه،
كموضوع للخطاب، ويمكن أن نجد فيها ما يسوغ اقتراح وصفها بالقصة "الفكر/
شعرية" أو "الفكر/ انفعالية" من حيث قوة "وقع" "إيقاع"، خطابها التعبيري في
استقطاب مساحات اجتماعية وإنسانية شاسعة مفتوحة للمتلقي للتعبير عن موقف أو
صوت "ملحمي" يختزل رؤية العالم، دون أن يحيلنا
–بالضرورة-
على تقاليد وخصائص ووظائف وحيثيات "الملحمة" في الأدب القديم أو الكلاسيكي
أو الحديث.
1ـ 5: وإذا كان إطار ومؤطرات هذه الكتابات الإبداعية مهما، فإن الأهم منه،
يتمثل في بنائها الفني لشبكة من المدارات و"الحقول الدلالية" التي تتغذى من
بعضها داخل العمل الإبداعي الواحد: (المدينة مثلا)، وعلى امتداد كل الأعمال
الإبداعية المقترحة التي تتكامل كلها في التعبير عن موقف جريء، فذ، يستهدف
التغيير الجذري لواقع الحياة الاجتماعية والإنسانية، وفق إرادة ذاتية،
فردية وجماعية، خلاقة تسعى إلى تحرير الإنسان من نفسه أولا، ومن الإنسان
ثانيا، ومن الأنساق والقيم الخاضعة لمنطق الجبر والضرورة مقابل توسيع مساحة
منطق الاختيار والحرية، في حدود المقدرات المتاحة للإرادة الإنسانية،
ثالثا. ولأن حقـائق الأمور لا تدرك في الجوهر إلا بتجسيد "النظائر"
و"الأضداد" على مستوى الحياة العامة، العادية، وتشكيلها الفني والفكري
العميق والمتميز، في أحد أبرز وأهم المفاهيم الفلسفية والمنجزات الجمالية
ذات العلاقة المباشرة بإشكالية "اللغة والمعنى"، وهو عنصر "المفارقة"(5)
(paradoxe)،
الذي يعتبر من بين العناصر الفنية والفكرية التي تكاملت في إنتاجها
-بمستويات متفاوتة- كل الأعمال الإبداعية التي يقترحها علينا القائد،
المبدع، معمر القذافي.
إن مدار القول في الأعمال الإبداعية المقترحة على القارئ من الموقع المركب،
للقائد، الكاتب، معمر القذافي، يتمثل في إعادة بناء المجال "الموضوعاتي"،
(Domaines
thèmatiques)
، الأساس، المرتبط بـ: "المكان"(6)،
ككيان مادي، متضخم، متوحش، تصادر فيه إرادة الإنسان في التوق إلى "المعنى":
(قصة المدينة)، وكـ: "كينونة" مشبعة بـ "المعنى": (قصة: الأرض، الأرض-
الموت).
وكما تكاملت هذه الأعمال في "المكان، الكيان"، مقابل "المكان، الكينونة"،
فقد تكاملت –بالضرورة-
أيضا، في الدلالة المفارقة للمكان، بوصفه "استقطابا" لتشبع وتجذر وحيوية
الشعور بمعنى: "الهوية"(7)،
المركبة، التي اختزل التعبير عن الانجذاب إليها، من موقع الانفصال عنها،
الشاعر، العباسي، المولد، (أبو تمام)، عندما قال:
نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ما الحب إلا للحبيب
الأول
كم منزل في الأرض يألفه الفتى وحنينه أبدا لأول
منــزل.
2ـ الدلالة المفارقة للمكان في الأعمال الأدبية، للكاتب، معمر القذافي.
2ـ 1: كما تقدمت الإشارة المقتضية، فإن المعادلة/ المفارقة: (المكان/
الكيان# المكان/ الكينونة)، هي "الحافز" الذاتي والموضوعي ومدار تناسل
القول وكيفية القول الأدبي في الأعمال الإبداعية المقترحة على القارئ:
(المدينة- القرية.. القرية- انتحار رائد الفضاء- الفرار إلى جهنم- عشبة
الخلعة والشجرة الملعونة- الموت- ملعونة عائلة يعقوب.. ومباركة أيتها
القافلة- افطروا لرؤيته- دعاء الجمعة الآخرة- وانتهت الجمعة دون دعاء-
المسحراتي ظهرا).
فكل هذه الأعمال تنحو منحى سرديا من نوع خاص، يصلها بالطبيعة والوظيفة
النوعية، الحيوية للقصة القصيرة، كشكل فن اختزالي مراوغ، ولكنها لا تنغلق
عليه أو على خصائصه الفنية المتواترة عند محترفي فن القصة القصيرة.
وفي هذا الإطار نلاحظ أنها جميعا تتكامل في إظهار وإضمار الدلالة المكانية
أو الزمنية أو "الزمكانية" من موقع الرؤية المفتوحة على العالم، كما نلاحظ،
أيضا، أن عالمها: (اللغة- الشخوص- الأفكار والرؤى والمشاعر- الأحداث-
الأمكنة والأزمنة، الخ..)، لا يتطابق مع العالم الموضوعي الخارجي الذي ربما
تكون قد استمدت منه في الأصل.
وهي بهذا التجاوز تعيد تجسيد وإخراج التداول "النقد/ أدبي" الحديث، بخصوص
المفاهيم والمصطلحات "الزئبقية"المتعلقة بعلاقة الأدب بالواقع، على سبيل
الإطلاق، وبعلاقة "المكان الفني" أو "الزمن الفني" أو "الشخصية الفنية" أو
"الرؤية الفنية"، بالواقع، على سبيل التعيين.
فإذا كان التصور الذي مؤداه أن الأعمال الأدبية التي تفتك الاعتراف بها من
داخلها، لا تحيلنا إلا على ذاتها، وعلى "السنن" و"الأعراف"، النسقية أو
"السياقية" لتناسلها من بعضها عبر التاريخ ، مؤسسا ومشروعا، فإن الإصرار
على مقولة "أن الأدب لا يعادله إلا الأدب"، قد حولت الأدب والفن بوجه عام،
وأشكال الحكي السردي، التي من أبرزها القصة القصيرة، بوجه خاص، إلى مخبر
صناعة شكلية، وأكاد أقول "إشهارية"، تفتقر إلى حيوية وثراء وعمق وشمول
المعنى الذي تستوقفنا فيه "صيرورة" الحياة التي يضطرب بها الواقع المرئي
المنظور أو المضمر، غير المنظور. إن أبرز فقهاء الفكر بوجه عام، ومعالم
النقد الأدبي بوجه خاص، ما فتئوا يتكاملون
–حتى
وإن اختلفت منازعهم الأيديولوجية- في الإجماع على أن "الأدب"، يقوم على
مفارقة الاتصال بالواقع والنفاذ في حيثياته العينية على كل المستويات،
والانفصال الجزئي أو الكلي عنه، وذلك لأنه: "يتوجب
–كذا-
على الأدب أن يكون على صلة معترف بها مع الحياة، وإن كانت الصلات شديدة
التنوع:
يمكن السمو بالحياة أو الاستهزاء بها، أو مناقضتها، فالأدب في كل الحالات
انتقاء ذو طبيعة نوعية هادفة"(8).
2ـ 2: وتأسيسا على ذلك، فإن "المكان " في جل
–وربما
كل- الأعمال الأدبية موضوع الندوة، يقترح
–أول
ما يقترح- على المتلقي دلالة كلية مفارقة، أشبه ما تكون بالعملة الواحدة
ذات الوجهين المفارقين لبعضهما في "العرض" و"الجوهر" معا. وهذه الدلالة
الكلية المفارقة هي التي تؤسس وتصوغ "رؤية إجمالية"(V
ision globale)
للعالم على نحو ما رآه وأدركه واستشعره الكاتب معمر القذافي. ولضيق الوقت،
نكتفي بمعاينة الدلالة المفارقة للمكان في الأعمال المتصدرة التي
يمكن أن تكون "فرض كفاية"، لا يحجب
–طبعا-
أهمية "فرض العين" للأعمال الأخرى .
2ـ 2ـ 1: وبالطبع فإن الأعمال التي انتقيناها، هي تلك التي سميت، ووسمت،
وسما مكانيا كليا، عاما، ومفتوحا على الفضاء الاجتماعي، الجماعي، والإنساني
غير المتعين على وجه التحديد، مثل: "المدينة"، "القرية.. القرية"، "الأرض..
الأرض". وبصرف النظر عن عدم انتظام هذه الأعمال في التقنيات الإجرائية لشكل
القصة القصيرة، فإنها جميعا تتكامل فيما يمكن أن نصطلح عليه بـ "خطاب"
القصة القصيرة أو "القصة المقالة".
والمسألة –على
أي حال- ليست هنا، بقدر ما هي في الأسئلة الإشكالية الآتية: عن أية "مدينة"
يتحدث "خطاب" "المدينة"، الذي جمع بين تفكيك أقنعتها "الشائهة"(9)
"المشوهة"(10)
–بتشديد
وكسر الواو- وبين التعبير عن "وحدة الانطباع"(11)،
بالإفلات من الخضوع إليها أولا، وبمناهضتها من موقع الفضاء الحر، غير
الملوث بعد بنفاياتها السامة، ثانيا(12)،
وماذا لو افترضنا
–
مجرد افتراض- أن مساحة الإشكالية المضمرة في خطاب "المدينة" أكبر وأشد
تأثيرا وأهمية من مساحة ما هو مظهر ومباشر في "المدينة/ الخطاب"؟؟!…
ذلك أن "المدينة"، كعنوان مكاني مظهر، وزمني مضمر، وككلمات وجمل وفقرات
ومقاطع ملفوظة مشحونة، وأخرى تضيق بمحمولها الحروف والكلمات والجمل
المنطوقة، فأشرت لها النقاط، ليست
–في
الواقع- مجرد إعادة بناء وتفكيك "رؤية" المدينة "الوحش" التي تبتلع الحياة
وتغذي الشعور بالرعب والموت وافتقاد الهوية، على نحو ما عبر عن ذلك الناقد
الشاعر (ت. س. إليوت)(13)
T. S. Eliot
(1888- 1965)، عندما رأى أن المدينة: "وحش ضرير أو هوة للموت تبتلع من فيها
وتحيل الفرد إلى قزم"(14)،
أو كما كثف الشعور بمفارقتها، الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي، في قصيدته ذات
الرؤية المفارقة: "هذا أنا وهذه مدينتي"(15)،
المتصدرة في مجموعته الشعرية الموسومة بـ: "مدينة بلا قلب"، فحسب، وإنما هي
–إلى
ذلك- رمز مركب للعالم الصناعي، الاصطناعي، الذي تتسع مساحة هيمنته ونفوذه
وتحكمه في أقدار ومقدرات الحياة الإنسانية، وإعادة هيكلتها، هيكلة رقمية
مبرمجة، تفرغها من جوهرها الحق، المتمثل في "الهوية"، المادية والمعنوية
والروحية، المولدة للمعنى، أو المغرية بإدمان الطموح بحثا عنه أو استشعارا
له.
ويمكن أن نتمثل ذلك في الأمثلة الخطابية التعبيرية الآتية:
I-
المدينة ضرورة مفارقة للاختيار:
".. المدينة حشر معيشي، وجدت الناس نفسها بالضرورة فيها ، ولم يأت أحد
ليسكن المدينة من أجل النزهة ، بل من أجل العيش ، والطمع والكد .. والحاجة
.. والوظيفة التي تجبره على أن يعيش في مدينة"(16)
.
II-
المدينة مفارقة للترابط الاجتماعي
:
" .. وبطبيعة الحياة فيها ، يصبح هدفها هو المنفعة والفرصة ، وأخلاقها
النفاق (ومن أهل المدينة مردوا على النفاق ) (قرآن) .. وكلما تقدمت المدينة
وتطورت وتعقدت وابتعدت عن الروح الودية والأخلاق الاجتماعية .. حيث سكان
العمارة لا يعرف بعضهم بعضا ، وتصبح الحيثية رقما فحسب ، فلا يقال : فلان
ابن فلان .. من قبيلة الفولانيين
…
بل يقال : رقم كذا …
أنت الذي تسكن في الشقة رقم كذا ، في الطابق رقم كذا ، صاحب الهاتف رقم كذا
والسيارة رقم كذا .."(17)
.
جـ :
المدينة مفارقة للكينونة ومصادرة للمعنى
: ( المدينة مجرد حياة دودية "بيولوجية" يحيا فيها الإنسان ويموت بلا
معنى.. بلا رؤية.. بلا ترو.. يعيش ويموت وهو داخل قبر في الحالتين.. لا
حرية في المدينة.. ولا راحة.. ولا رواق.. جدران زائد جدران، في المسكن، في
خارج المسكن، في العمارة، في الشارع، في العمل.. لا يمكنك أن تجلس كما تريد
أو تمشي في أي اتجاه تريد..)(18).
د: المدينة كيان حائطي متضخم يحجب الكينونة:
"في المدينة يحترمك الحائط أكثر من البشر، قد تستند إلى الحائط.. والحائط
يرشدك إلى مكانك عندما تعلق عليه تعليمات وإرشادات وإعلانات يصعب جدا على
إنسان ساكن في المدينة، أو لاف على المدينة أن يعطيها أو يسأل عنها وهو في
حاجة إليها.. عليك وعلى الحائط، فالحائط فقط واقف في المدينة، ولكن الناس
هي التي لا تستطيع أن تقف مع الحائط.. المدينة دخان.. أوساخ.. رطوبة.. حتى
ولو كانت في صحراء"(19).
هـ: المدينة مفارقة للزراعة، للأرض، للإنتاج، للجهد، للطبيعة الكونية(20).
و: المدينة مفارقة للطفولة السوية والمستقبل الواعد(21).
وهكذا فمفارقة الخطاب في "المدينة" تتسع أفقيا وتتجذر رأسيا، لتصبح رؤية
فلسفية أو نظاما مفارقا لرؤية العالم، يتناص، "تناصا"
(22)
(Intertextualité)
"عكسيا"، مضمرا تفهمه بقوة السياق، مع ما عرف عند عملاق المسرح العربي
المرحوم (توفيق الحكيم) (1889- 1987)، باسم: "التعادلية مذهبي في الحياة
والفن"، والتي
–التعادلية-
يعرفها توفيق الحكيم بقوله: "إن التعادلية في هذا الكتاب هي الحركة
المقابلة والمناهضة لحركة أخرى.. كل قوة يجب أن تقابلها وتعادلها قوة..
التعادلية إذن تفسر الحياة الإيجابية بأنها ضرورة وجود جملة من قوى تتقابل
وتتوازن مناهضة بعضها البعض في المجتمع.. التعادلية هي فلسفة القوة
المقابلة والحركة المقاومة للابتلاعية"(23).
والحال أن خطاب "المدينة" مفارق لهذا النظام، المنتظم، المتكامل، المنسجم،
وذلك لأن قوى "الابتلاعية" فيها بلا مكافئ أو مقابل، مما جعل توق بصر
وبصيرة الكاتب معمر القذافي إلى الحياة الإنسانية الكريمة يتعلق بالمجالات
المكانية، المكينة، المعادلة لممارسة الحرية والاختيار وتحقيق الشعور
بالرضا والانسجام والتناغم خارج الاحتكام إلى ثقافة "الحائط" التي تجعل
الحياة الإنسانية مجرد سلعة استهلاكية ومجرد علامة إشهارية، وتلك هي مفارقة
المفارقات.
2ـ 2ـ 2: إن إرادة تحدي التحدي في الخطاب الأدبي والفكري للكاتب معمر
القذافي، تخترق الدائرة المغلقة التي أطرتها وبرمجت مؤطراتها المدينة
الجائرة.
ويتجلى ذلك في خطاب الاحتشاد والاستنفار والانجذاب إلى الفضاء المكاني
المفتوح، متمثلا في "القرية.. القرية"(24)
و"الأرض.. الأرض"(25)،
على وجه الخصوص. وكما تساءلنا فيما تقدم من داخل خطاب المدينة، عن المحتوى
الدلالي لهذه المدينة المناهضة فإننا يمكن أن نتساءل بالصيغة نفسها، ولكن
في "الاتجاه المعاكس"، بل المفارق لوقع دلالة خطاب المدينة. فماذا لو
افترضنا أن خطاب التعبئة والاستنفار الواعد في: "القرية.. القرية"
و"الأرض.. الأرض"، لا يدل على ما يفهم من سياقه الخارجي المعلوم، المتواتر،
إذ لو كان الأمر كذلك، لقلنا أن المسألة لا تعدو أن تكون تعبيرا عن حالة
سياحة (فكر/ وجدانية) رومانسية تطلب الاحتماء بالطبيعة، الطبيعية، البكر،
الودود، الدافئة، والتطهر من أدران الحياة الصناعية الاصطناعية التي كشفت
عنها الفضاءات المحيزة، الضيقة، التراكمية في عالم المدينة؟
وإذ لا نستبعد هذه الدلالة الانطباعية المباشرة، فإن الصيغ المؤكدة
والدلالات الإلتفافية والإيقاع الجاذب، المتناغم للخطاب في هذين العملين،
يجعلنا بصدد رؤية لفضاء وجودي، روحي، متجذر، يتيح لنا أن نستشعر ونعاين
وجودنا الجوهري، النوعي، لا الكمي أو العددي، من خلال توحدنا واتحادنا مع
الكون (الكينونة)، المفتوح، في جلاله وجماله وقوته وتراميه وتنوعه وامتداده
غير المتناهي أفقيا ورأسيا، وإن تناهت مقدرات مداركنا له.
وهكذا فإذا كانت شراهة المدينة قد أدت وظيفة "الحافز" السلبي، فإن عفاف
القرية وتلقائية وجمال الريف وعطاء الأرض، الذي لا ينضب، قد أدى وظيفة
"الحافز"، الإيجابي الذي يقتضي التصميم الإرادي على الخلاص من ثقافة الأسر
والاحتجاب والتضاؤل
–رغم
الكيان المتضخم- التي كرستها وروجت لها المدينة المتهمة والمناهضة من موقع
رؤية الكاتب، كما يقتضي
–ترتيبا-
الالتحام بالفضاءات المكانية المفتوحة المنسجمة أفقيا وعموديا، ويقتضي
–أكثر
من كل ذلك وأهم منه- التجذر في ثقافة وقيم الحرية والاختيار واستشعار
المعنى في وتيرة الحياة الخاصة أو العامة أو الأعم، بعيدا عن الدوران في
فلك السلطة المتسلطة لحضارة الأشياء التي أتاحت لها المدن الأخطبوطية
الكبرى الوصية على العالم أن تتحول إلى مقاصد وغايات بعد أن كانت وسائل
لتعزيز الكرامة الإنسانية. لقد استطاعت هذه الأعمال المتكاملة في بلورة
خصائص ووظائف وقيم الخطاب الأدبي غير المؤطر بخصائص نوع أدبي (إبداعي)
بعينه، أن تفتك صفة "الكاتب" "المفكر" لمبدعها، عن جدارة واستحقاق، سواء
أكان ذلك على مستوى الخصائص التعبيرية والجمالية التي برهنت كلها على أن
"بلاغة الكتابة"
–وليس
كتابة البلاغة- في هذه الأعمال، تكمن في انسجام وتفاعل "المقال" مع
"المقام"، أم كان ذلك على مستوى شمول وعمق وحيوية "رؤية العالم" التي لم
تقتصر على رصد وتحليل افتقاد الإنسان للكينونة والهوية المفعمة بالمعنى في
العالم المفتوح الذي يتعزز فيه الشعور الاجتماعي بالحرية والمسؤولية
واستشعار المعنى والهدف.
وعلى سبيل المثال لا الحصر، يمكن أن نتمثل أبرز الوجوه الدلالية المفارقة
للمكان في "المدينة" من جهة، وفي: "القرية.. القرية" و"الأرض.. الأرض" من
جهة ثانية، وذلك فيما يلي:
1ـ خطاب "المدينة"، خطاب "اتهام" و"تحذير" و"وعيد" و"انفصال"، بينما خطاب
"القرية..القرية"، "الأرض.. الأرض"، خطاب تغلب فيه عناصر "البراءة"،
"الترغيب"، "الوعد"، "الارتياح"،"الاتصال"، "التواصل" الخ…
2ـ "رؤية العالم" في خطاب "المدينة" رؤية تراكمية، نمطية، داكنة، تتضخم
فيها كيانات الأشياء وتتضاءل
–إلى
حد التلاشي- كينونتها وجواهرها المتفردة، بينما "رؤية العالم" في "القرية..
القرية"، "الأرض.. الأرض"، رؤية فضائية، مفتوحة المجال أفقيا ورأسيا، تتصف
بالإشراق، تحد من الكيانات المادية المتضخمة وتعزز الشعور بالكينونة
المعنوية والروحية.
3ـ يبدو الجهد ومردود الجهد الاجتماعي في خطاب "المدينة" مبددا حينا، رغم
كثافته وتقنينه، وخاضعا لمنطق "الاستهلاك للاستهلاك"، حينا آخر، بينما يبدو
-بالمقابل- في خطاب "القرية.. القرية"، "الأرض.. الأرض"، مثمرا بسبب
القناعة وبسبب الاتصال المباشر بالطبيعة، وعمليا بسبب وضوح وأولوية الحاجة
للاستهلاك.
4ـ المجتمع في خطاب "المدينة" ذرائعي، مفكك، محتل، آلي، يفتقر إلى "الثقة"
والشعور بالأمان والائتمان، بينما المجتمع خطاب "القرية.. القرية"،
"الأرض.. الأرض"، تنظمه وتنتظمه "المنفعة العامة" والروابط والعلاقات
الاجتماعية والإنسانية والأخلاقية والروحية المتدرجة في إطار الاحتكام إلى
"الثقة" والأمان و"الائتمان"، وهو
–فوق
كل ذلك- مجتمع صحي غير ملوث بالعلل والأمراض الجسمية أو النفسية التي تعيش
عليها المدينة.
5ـ الحرية في خطاب "المدينة" موثقة في تعليمات تقننها وتعلن عنها وتسمح
بتطبيقها أو بالامتناع عن تطبيقها ثقافة الاحتكام إلى الحائط وكل ما هو في
حكم سطوته ونفوذه، بينما تبدو في "القرية.. القرية"، "الأرض.. الأرض" جزءا
لا يتجزأ من ملكوت الله الفسيح، ولذلك تمارس في حدود المسؤولية الاجتماعية
والأخلاقية والروحية المتجذرة في ثقافة القرية والريف، وقبل كل ذلك وبعده
في ثقافة وحضارة الأم الحنون، المعطاء، "الأرض"، محل تكريم الإنسان
واستخلافه في الحياة الدنيا ومعبره إلى الحياة الأخرى.
الإحالات:
(1)- أ. د. شكري محمد عياد، القصة القصيرة في مصر "دراسة في تأصيل فن
أدبي"، دار المعرفة، القاهرة 1979، ص، ص: 11ـ 30/ 31ـ 78/ 111ـ 175.
(2)- غالبا ما يقدم "المنظور" على أنه "كيفية" بناء "رؤية العالم"، ويختلف
بناء "المنظور" باختلاف طبيعة ووظيفة أشكال القول المتوخاة.وفي سياقنا هذا
نلاحظ أن المنظور المقترح هنا هو "المنظور" الفكري المباشر، الذي تمرجعه
مفارقة "الهوية" و"اللاهوية" و"الفعل الإرادي" الحر، مقابل "رد الفعل"
السلبي، و"الانفصال" مقابل "الاتصال"، و"الانغلاق"، مقابل، "الانفتاح"
و"الاصطناعي" مقابل "الطبيعي"، الخ…
لأهمية الموضوع، أنظر:
- مجموعة من النقاد الغربيين، نظرية السرد، من وجهة النظر إلى التبئير،
ترجمة: ناجي مصطفى، الدار البيضاء- المغرب، 1889، ص: 57- 94.
(3)- المكان والزمان "متداخلان"، "متخارجان"، طبيعة ووظيفة ودلالة. وربما
هذا ما بلوره الناقد الروسي (ميخائيل باختين) (Michael
Bakhtine)
باسم المصطلح التركيبي، المعروف بـ: (chronotope).
أنظر في ذلك:
- M. Bakhtine, Esthétique
et Théorie du Roman, Ed. Gallimard,
Paris1978 p.
398 .
-
Joëlle Gardes- Tamine Marie-
Claude Hubert : Dictionnaire du Critique
-
Littéraire.Ed. Masson,
Paris1996 p. 35- 36.
(4)ـ أنظر:
-
Wayne. G. Booth, « Distance et
Point de Vue », dans :
Poétique
du Récit, Ed. Seuil, Paris 1977, pp. 85- 112.
نظرية السرد من وجهة النظر إلى التئبير (سابق) ص: 37- 54.
(5)ـ د. خالد سليمان، المفارقة والأدب، دراسات في النظرية والتطبيق، دار
الشروق للنشر والتوزيع، عمان- الأردن، 1999، ص: 13ـ 36.
(6)ـ أنظر:
-
G. Genette. Figures1, Ed.
Seuil, Paris1969 p. 101- 108.
-
يوري لتمان، مشكلة المكان الفني، ترجمة: سيزا قاسم: (مجلة البلاغة
المقارنة) (ألف)، عـ: 6، الجامعة الأمريكية، ربيع 1986 ص: 79- 102.
-
د. عثمان بدري،
وظيفة اللغة في الخطاب الروائي الواقعي عند نجيب محفوظ، دراسة تطبيقية،
المؤسسة الوطنية للفنون المطبعية (موفم)، الجزائر2000، ص: 77ـ 131.
(7)ـ د. حسن نجمي، شعرية الفضاء، المتخيل والهوية في الرواية العربية،
المركز الثقافي العربي، بيروت، لبنان، الدار البيضاء، المغرب، 2000، ص: 12ـ
97.
(8)ـ رينيه ويلك، أوستن وارين، نظرية الأدب، ترجمة: محي الدين صبحي، دمشق،
سوريا 1972، ص: 278.
(9)ـ معمر القذافي، "القرية.. القرية، الأرض.. الأرض، وانتحار رائد الفضاء
وقصص أخرى"، الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع والإعلان، سرت- الجماهيرية
العربية الليبية الشعبية الاشتراكية العظمى1993 ص: 9ـ 11.
(10)ـ المصدر نفسه، ص: 15ـ 18.
(11)ـ من بين أهم تعاريف القصة القصيرة التعريف المؤسس على "وقع" القصة
القصيرة على المتلقي، المعروف بـ: "وحدة الانطباع"، والذي عرفها به (إدجار
ألان بو) (1849ـ 1909) (Edgard
Alain Poe).
(12)ـ معمر القذافي، المصدر السابق ص: 24ـ 25.
(13)ـ أ. د. نبيل راغب، موسوعة أدباء أمريكا، جـ: 1، دار المعارف بمصر،
القاهرة1979، ص: 30ـ 36.
(14)ـ رجاء النقاش، مقدمة ديوان أحمد عبد المعطي حجازي، دار العودة، بيروت،
لبنان1982 ص: 23.
(15)ـ أحمد عبد المعطي حجازي، الديوان (مدينة بلا قلب) (السابق) ص: 188.
(16)ـ معمر القذافي، القرية.. القرية، الأرض.. الأرض.. وانتحار رائد الفضاء
وقصص أخرى (سابق)، ص: 9.
(17)ـ السابق، ص: 9ـ 10.
(18)ـ نفسه، ص: 11.
(19)ـ نفسه، ص: 12ـ 13.
(20)ـ نفسه، ص: 16ـ 17.
(21)ـ
نفسه، ص: 22ـ 24.
(22)- Dictionnaire de Critique Littéraire (Ibid) p : 101.
(23)ـ توفيق الحكيم، التعادلية مذهبي في الحياة والفن، المطبعة النموذجية،
القاهرة1976 ص: 117.
(24)ـ معمر القذافي، المصدر السابق (القرية.. القرية) ص: 34ـ 36/ 38ـ 39.
(25)ـ المصدر السابق (الأرض.. الأرض)، ص: 45ـ 48.
ـــــــــــ
|