أدب معمر القذافي

سخرية مرة ولاذعة من الواقع

*****

 

      منذ خلقت البشرية وإلى اليوم الشعراء يكتبون شعر، والفنانين يرسمون وكتاب القصة والرواية يكتبون ، الإبداع بحر لا قرار له ، ومدى لا حدود له، والغريب والمدهش في آن ، أن لا أحد يشبه أحد من هؤلاء، سطروا مليارات السطور ، واستهلكوا أطناناً بالملايين من الورق والحبر، ومع ذلك ، كان لكل واحد منهم شخصيته المميزة . قد يقول قائل إن هذا تأثر بذاك. هذه المقولة ليست صحيحة، إن أي كاتب مبدع إذا عرف أنه يكتب شيئاً شبيهاً بما يكتبه غيره لا يكتبه ، ويتخلى عنة فوراً. لكن الآداب والفنون تتواصل ، وبكثير من التدقيق والمراجعة نجد أن كل فنان وشاعر وكل كاتب ، قائماً بذاته ، وعلينا أن ندرسه من باب ما كتب وليس من باب ما تأثر بهذا أو ذاك ، وهذا يدفعنا إلى السؤال عن وظيفة الأدب ، ما هي وظيفة الأدب ؟ وإلى أي حد يستطيع الكاتب أن يمزج ما بين الحياة وبين الفن ؟ يقول رينيه ويليك: "من المحتمل أن يكون الفن كله عذباً ومفيداً ، لمن يجيدون استعماله ، وأن ما يفصح عنه يفوق ما تهفو إليه نفوسهم من تأملات أو تهويمات ، وأنه يمنحهم البهجة بفضل المهارة التي يفصح بها عما يعتبرونه شبيهاً لتأملاتهم ، حين يؤدي العمل الأدبي وظيفته تأدية ناجحة فإن "نغمتي" الفائدة والمتعة لا يجوز أن تتعايشا فقط ، بل يجب أن تندمجا ، ونحن هنا بحاجة إلى أن نؤكد على أن متعة الأدب ليست إحدى المتع المفضلة بين قائمة طويلة من المتع الممكنة، وإنما هي "متعة رفيعة " لأنها متعة بأرفع نوع من الفعالية ، أي بالتأمل غير الاكتسابي . إن نفع الأدب - جديته وتعليميته- هو نفع مفعم بالإمتاع أي أنه يختلف عن جدية الواجب الذي يجب أداؤه أو الدرس الذي يجب تعلمه ، وجديته هي جدية الإدراك الحسي، جدية الإحساس بالجمال... ثمة نقطة أخرى: هل للأدب وظيفة أو وظائف ؟

   يعرض- هنا- بواس في كتابه: " مبادئ أولية للنقاد " بأسلوب مرح ، مجموعة من مهام النقد والأنماط المتعلقة بها، كما أن إليوت في نهاية مقالته " فائدة الشعر وفائدة النقد" يصر على تنوع الأشياء التي تعلمها فأخذك الفن أو الأدب أو الشعر مأخذ ، جدياً يعني- في العادة على الأقل- أن تعزو إليها بعض الفائدة النابعة من ذاتها، وبعد النظر في رأي أرنولد توينبي بأن الأدب والشعر يستطيعا أن يحل محل الفلسفة. يقول إليوت: " لا شيء في هذا العالم أو العالم الآخر بديل عن أي شيء غيره " أي ما من مقولة حقيقية في القيم لها معادل حقيقي. ليس للبدائل وجود من الناحية العلمية ، يستطيع الأدب بوضوح أن يأخذ مكان أشياء عديدة ، مكان الخبرة المباشرة، بديل وهمي عن الحياة ، ويمكن أن يستعمله المؤرخون كوثيقة اجتماعية. ولكن هل للأدب عمل أو استعمال لا يمكن أن يؤديه غيره بأفضل منه ؟ أم أنه إندغام للفلسفة والتاريخ والموسيقى والتخيل . لهذا أن نسأل مرة أخرى أيهما هو الأرجح: نموذجية الأدب أم خصوصيته ؟ قد تشدد النظرية الأدبية والمدافعون عنها على واحدة دون الأخرى، لأن الأدب في الحقيقة أكثر شمولاً من التاريخ والسيرة ، لكنه أكثر خصوصية من علم النفس أو علم الاجتماع. فمن بين قيم المعرفة في القصة والرواية هناك قيمة بسيكولوجية " بإمكان الروائي وكاتب القصة أن يُعلمْك عن الطبيعة البشرية اكثر من عالم النفس " إنه نوع مألوف من الأقوال المأثورة . كذا يوصي هورني بدوستويفسكي وشكسبير وابسنت وبلزاك كمصادر لا تفنى ، ويتحدث أي. أم فورستر في كتابه " وجوه الرواية " عن العدد المحدود جداً ، من الأشخاص الذين نعرف حياتهم الداخلية وحوافزهم. ويرى أن القصة والرواية تقدمان اكبر خدمة ممكنة بأن تكشفا عن الحياة الباطنية للشخصيات ". ومن المفروض أن الحيوات الداخلية التي يعزوها المؤلف لشخصياته قد رُسمت بدافع من الاستبطان اليقظ لنفسه ، وقد يصر المرء عى أن الروايات العظيمة هي مراجع لعلماء النفس أو تواريخ لحالات معينة .

    وقبل أن ندخل في تجربة الكاتب معمر القذافي سواء في الشكل أو المضمون الفنيين أو السخرية اللاذعة التي تضمنها أدبه ، لا بد من طرح أسئلة أخرى ، من بينها هل الأدب في أشكاله المختلفة صنعة ، وكشيء مماثل في طبيعته لقطعة نحت أو رسم. وهكذا يعتبر العمل الفني متطابقا مع خطوط الحبر السوداء على صفحة بيضاء..

    هل أتقن القذافي مهنة الكتابة إلى حد نُبعد فيها عنه عبارة "هواية الكتابة" ؟ ومع أن معمر القذافي لم يكتب سوى كتابين على حد علمي "القرية القرية- الأرض الأرض- وانتحار رائد الفضاء"  وتحيا دولة الحقراء" فقد بدا لي دون مبالغة أنه يتقن مهنة الكتابة إلى حد بعيد، وأنني متأكد أن خزانة الرجل ملأى بالمخطوطات التي لم ينشرها بعد ، لأن هذا الأسلوب المميز، المختلف ، لغة وشكلاً ومضموناً ، لا يتقنه إلا كاتب محترف بكل ما في كلمة الاحتراف من معنى . إن الرجل يعرف ماذا يقول ، ولا يلقي الكلام على عواهنه .

     أين يوجد العمل الأدبي ؟ العمل ذو الطبيعة الفنية ؟ هناك قصائد وأقاصيص لم تثبت أبدأ بالكتابة. ومع ذلك ما زالت موجودة يعني لو حاولنا إزالة قصيدة أو قصة من كتاب ، فإننا لا ننجح لأن هذه القصيدة أو تلك أصبحت في الذاكرة الشعبية..

     قبل أن أقرأ كتاب معمر القذافي ، كنت التقيت بالكاتب الليبي الكبير أحمد إبراهيم الفقيه في لندن ، تحدثنا مطولاً عن المجموعة التي كتبها القذافي ، وروى لي الفقيه ملخصاً لقصة الموت ، من ذاكرته ، وعندما قرأت القصة وجدت تشابهاً كبيراً بين النص وبين ما حفظه عن ظهر قلب الكاتب الفقيه.

     فالذاكرة الشعبية هي التي تحفظ أكثر من الكتب والتسجيلات وأفلام الفيديو.. ونحن نسمع قصصاً ترويها العامة منذ مئات السنين ، مع أن الكتب التي سجلتها اهترأت وباخت ، فما كتبه معمر القذافي سَهُل حفظه ، سَهُل أن يصبح أدباً ترويه الذاكرة الشعبية ، وسهولته ليست في ما يظن المرء أنه سطحي ، على العكس تماماً، إنه سهولة اللفظ واللغة في الموضوع العميق والمتماسك "نلاحظ ذلك خصوصاً في قصة (الموت) ".

     هل قرأ معمر القذافي كتباً في النقد لا أظن ذلك لكن بعفوية الكاتب وموهبته وأحاسيسه استطاع أن يقدم لنا نصاً ضمن المقولات النقدية دون أن يقصد ذلك ، جاء عفوياً بكل ما تعني هذه الكلمة من معنى.. يقول أوستن وارين : على من يقص قصة أن يعتني بما يحدث وليس بالنتيجة فقط، ثم كلمة ينبغي أن تقال حول السرد، السرد عند الكاتب القذافي موصول ملزوز بصورة مدهشة ، إنه يلتقط به أنفاس القارئ بشكل يجعله لا ينفك في قراءة النص حتى نهايته، وانسرد هذا وحده نصف نجاح العمل ، شخصياً ، عندما أمسك برواية ، أو قصة ، إذا لم تجذبني منذ السطور الأولى

أتركها ، إن روعة الأدب أن ينجذب القارئ إليه منذ الصفحة الأولى ، وبدون مبالغة أو مجاملة ، هذا نجده عند نصوص القذافي سواء في القصة ، أو المقال ، أو النص الأدبي .

      ومعمر القذافي ليس كاتباً رومانسياً، إنه كاتب واقعي وغاضب وناقد للأحوال الاجتماعية التقليدية وثائر عليها ، في الحقيقة كما قالت كلارا ريف " الرواية- أي الحكاية والقصة- صورة عن الحياة الواقعية وعادات الناس ، وعن العصر الذي كتبت فيه، أما الرومانس ، المكتوبة بلغة منمقة بليغة، فتصف ما لم يحدث أبداً ، وما لم يحتمل حدوثه أبداً " الرواية واقعية والرومانس شعرية أو ملحمية ، نشأت الرواية منذ نشأت من الأشكال السردية غير الخيالية ، وهنا أتوقف لحظات لأقول إن قصة "الموت " كان بالإمكان أن تكون أطول بكثير إنها في الحقيقة خامة رواية في قصة قصيرة ، وحبذا لو يعيد الكاتب النظر فيها وكتابتها من جديد، إنها قصة فوق الإبداع ، وفيها نمط من المشاعر كما وجدناه عند كاتب آخر لا بين العرب ولا في الغرب أو الأمم الأخرى. إن ما كتبه عنها الكاتب الكبير أحمد إبراهيم الفقيه ، يؤكد على أنها قصة كبيرة ، إذ من الصعب على كاتب مثل الفقيه أن لا يقول الحقيقة ، وإلا فإنه يسيء إلى نفسه ، ومثلما لفتت نظره قصة أخرى هي "الهروب إلى جهنم " لفتت نظري أنا الآخر أكثر من بقية النصوص يقول الفقيه: "نلتقي في قصة "الفرار إلى جهنم " بأولى شحنات عندما نشعر أن علينا الرحيل.. هذا الاستسلام هو في رموزه استسلام لفكرة الموت، وهي الفكرة الأنثى .

      أقول أيضاً إن قصة الموت تمتلك فنية القصة بكل مفاهيمها النقدية ، ففيها الحدث وفيها البطل ، وفيها المكان والزمان وفيها الراوي من نقطة البداية إلى نقطة الذروة ، وخصوصاً أنها عالجت الموت من منظور جديد كل الجدة على المستوى العربي وعلى المستوى العالمي .

     في الحقيقة- كما ذكرت سابقاً- أن قصة الموت "تحفيز" للرواية ، ويحسن بنا هنا أن نتبنى مقولة ويليك وارين مثل هذا المصطلح نظر ، لإشارته المزدوجة إلى الإنشاء البنيوي أو السردي وإلى البنية الداخلية لنظرية نفسية أو اجتماعية أو فلسفة حول السبب الذي يجعل الرجال- الأب في قصة الموت- يسلكون هذا النحو أو ذاك، وفي العمل الأدبي الرفيع يجب أن يزيد التحفيز من توهم الواقع أعني أن يزيد من وظيفته الجمالية. إن "التحفيز" الواقعي صنعة فنية ، وفي الفن التراثي أهم حتى من الوجود .

       إن البنية السردية هي التقديم الفني المنظم لكل حوادث الرئيسية المتكررة، نلاحظ ذلك في قصة "المدينة" التي أربكت الناس وفككت الوشائج والروابط فيما بينهم، والكاتب في هذا النص يدين المدينة التي هي تقليد للغرب ، أبنية متراصة لا يعرف سكانها بعضهم بعضاً، حيث يعتبرها الكاتب وبالاً على الناس. لكنه بالمقابل يقدم لنا الصورة المعاكسة في نص "القرية القرية " حيث الفضاء الفسيح ، وأهلها كأنهم قبيلة واحدة وأسرة متماسكة ، يعيشون بسلام ووئام .

     لا أستطيع أن أقول إن: المدينة والقرية والأرض هي قصص بمعنى الفن القصصي ، فلا شخصيات فيها ولا حادثة ولا حبكة ، لكنها تندرج في المعاناة النفسية تجاه الوجود ككل ، فالكاتب له عين ترى ما وراء المنورة، يتأمل كثير ، فيما حوله، فاستطاع أن يرسم لوحة تشبه غرانادا بيكاسو حيث كل شيء غير طبيعي كل شيء يراه على حقيقته ولكنه بالمقلوب الرأس في القدم والقدم في الرأس والعين في باطن الكف والوجه ممسوح لا تعابير له ، ولا أظن أن الكاتب خطرت بباله تجريدات بيكاسو عندما كتب هذا النص الجميل الممتلئ بالصور الواقعية التي نراها كل يوم نحن سكان المدن ، دون أن ننتبه لها كما انتبه إليها الكاتب ، فسجلها لنا بلغته البسيطة الموحية المتنامية ببراعة من لا يرى من خلال عينيه فقط بل ومن خلال قلبه وأحاسيسه ومشاعره ، ولا أبالغ إذا قلت أن لا أحد من الكتاب خطرت بباله هذه الصور حتى الكتاب الذين أدانوا المدينة ، لم يستطع أحد ، منهم أن يستجمع هذه الصور، دون أن يكون هناك بطل ما، أو مجموعة أشخاص محددين من أهل المدينة في إطار معين ، حتى بدت لي هذه الأوصاف والصفات ركيزة لرواية طويلة، لو كان لدى الكاتب وقت فراغ لأمكن له أن يقدم لنا رواية مميزة. فإذا انتقلنا إلى نص لا انتحار رائد الفضاء"، نرى كما ذكرت سابقاً هذا الترابط الموصول بعضه ببعض كما يقول الكاتب حيث تتجلى سخريته المرة: " بعد أن طاف الإنسان في الفضاء الخارجي وأصابه الدوار، وبعد أن عجزت الميزانيات على نفقات الفضاء الباهظة ، وبعد أن نزل على القمر ولم يجد شيئاً، وبعد أن فضح رائدا الفضاء تخاريص وترهات العلماء عن وجود محيطات وبحار فوق سطح القمر ، وتنافست الدول الكبرى السفيهة على امتلاكها، وسمتها بأسمائها.. وكادت تتقاتل فوق الأرض لاقتسام ثروات القمر، وخاصة الثروات البحرية وبعد أن اقترب الإنسان من كل أجرام المجموعة الشمسية، والتقط لها الصور، ويئس من وجود أي حياة فيها، ومن إمكان أي معيشة عليها، عاد إلى الأرض مصدوعاً، مصاباً بالدوار والقيء والموت..

     ولم تبق إلا حقيقة أن الأرض وحيدة فريدة وأنها مصدر الحياة ، وأن الحياة ماء وغذاء، وأن المكان الوحيد الذي يمدنا بذلك هو الأرض لا غير.. إلخ.

    والجميل في الكاتب لا أن يسخر فقط من هذا الإنجاز الذي كلف المليارات.. مليارات كانت ستطعم ملايين الجياع في الأرض، بل قدم لنا أيضاً المعلومة، فموضوع الفضاء غافل عن معظم البشر، ولا يعرفه إلا العاملين فيه، لكن، في إطار السخرية اللاذعة يعطينا الكاتب المعلومة تلو المعلومة فمثلاً : أن الأرض تقل في حجمها عن حجم المشتري قرابة 1320 مرة وأن 12 سنة أرضية تعادل سنة واحدة للمشتري ، وأن بقعة المشتري كافية لاستيعاب الأرض في مركزها، وأن 744 كرة أرضية تساوي حجم زحل ، ومع هذا فإن وزن الأرض يقل قرابة 95 مرة فقط عن وزن زحل ، وأن قطر الأرض يزيد بحوالي 50 مرة على قطر القمر، وأن حجم الأرض يزيد عن حجم القمر بحوالي 80 مرة، وأن جاذبية الأرض تزيد بست مرات على جاذبية القمر، وأن بعد الأرض عن الشمس يصل إلى 150 مليون كلم. وأن ضوء الشمس يصل إلى الأرض بعد ثماني دقائق من انطلاقه بسرعة 300 ألف كيلومتر في الثانية ، وأن حجم الأرض يقل بقرابة 303800/ 1 مليون مرة عن حجم الشمس ، وكتلة الأرض كذلك تقل ب 58 3329 مرة، وكثافتها تقل ب. 30 مرة تقريباً عن كثافة الشمس.. إلخ. وأظن أننا جميعاً لا نعرف شيئاً عن هذه المعلومات ، لكن الكاتب يقترب من الثقافة الشعبية في تسجيل كل هذه المعلومات لكل الناس .

      وهنا أغلق الفلاح فاه الذي كان فاغراً طيلة رحلة رائد الفضاء من كوكب إلى كوكب.. ولم يفهم الفلاح شيئاً ، وإنما أصابه الدوار هو أيضاً وأحسّ أنه راجع من رحلة فضاء عبر المجموعة الشمسية كلها بلا أي نتيجة تتعلق بمزرعته ، فالذي يهمه المسافة بين كلى شجرة وشجرة وليس بين الأرض والمشتري! ويهمه حجم إنتاج مزرعته، وليس حجم عطارد ! وربما تصدق ببعض الشيء على رائد الفضاء المتسول المسكين وانصرف عنه، فانتحر رائد الفضاء بعد أن يئس من الحصول على عمل يعيش به فوق الأرض .

      في " الفرار إلى جهنم " الذي سبق أن تناولناها من منظورها النقدي فيها تتلاحق الرموز لنستوحي منها الحكمة ، فإن لكل شيء سببه في الحياة.. ما هي هذه التي أراد الكاتب أن يسميها جهنم.. وهي تبدو لنا اليوتوبيا التي يحلم بها الشعراء والكتاب.. لنسمع هذا البدوي المختلف عن كل البدو، الذي تربى في كنف الصحراء فاكتسب الحكمة والرؤيا، واكتسب حب المغامرة والكشف والاكتشاف فعندما تراءت لي في الأفق أمامي كدت أطير من الفرح ، وقفت لأسلك أقصر الطرق إليها.. وأختار أقربها إلى قلبها.. ولعلي أسمع لها زفيراً ، لكن جهنم ساكنة تماماً وهادئة للغاية.. وثابتة كالجبال التي حولها ، ويحوطها سكون عجيب، ويلفها وجوم رهيب.. لم أر لهباً ولكن

الدخان فقط يجثم فوقها. انحدرت نحوها بشوق.. مسرعاً في الخطى قبل مغيب الشمس آملاً في الحصول على مرقد دافئ في قلبها قبل محاصرتي بحراسة جحيمكم التي انطلقت ورائي دون وعي (...) إلى أن يقول: حاولت الحيلولة بيني وبين نفسي، ولكن بفراري إلى جهنم انتزعت نفسي منكم..

        لا أطمع منكم في شيء.. احتفظوا لأنفسكم بورق صناديق القمامة، وتركت لكم خوذتي الذهبية في القاهرة، (وهنا تلمع السخرية التي تدخل النص بدون استئذان): تلك الخوذة الصولجانية التي انتزعتها من الوكيل بعد أن سمعت وقرأت عنها، وأن خاتم "شبيك لبيك " يصنع من الذهب المرصعة به وأن الذي يلبسها يصبح سلطاناً في التو والحين والذي تريده يأتيك. إذا طلبت سلاحاً يصير بين يديك من البندقية إلى الصاروخ عابر الحدود..

    وحتى السراب، يكون رهن إشارتك، ناهيك عن الميغ والسيخوي، وتقدر أن تحبس وتطلق من تشاء من الإنكليز برغم أنف تاتشر، إلى أن يختم الكاتب ساخراً : لقد سمعت من صوت العرب أنكم محرومون من هذه الإمكانية الخلاقة ، وقرأت عن الخوذة الفولاذية.. عفو،. الصولجانية السحرية..

     وسمعت أن إبليس يحمل رقم " صفر زائد واحد " قد استحوذ عليها مدعياً أنه ملاك وشهد له بذلك : تشرشل وترومان.

      في "عشبة الخلعة والشجرة الملعونة" يتجه الكاتب وجهة أخرى، مازجاً بين السخرية والواقع الرديء، مثمّناً بشكل غير مباشر تجربة الأسواق التي أقامتها الدولة لتقدم إلى المواطنين المواد الغذائية والسلع الأخرى بسعر الكلفة مع زيادة قليلة، فيما يتوجه الآخرون إلى أسواق الغرب وبضاعته، متواصلاً مع سخريته من هذا الغرب، بأسلوب فكه يدل على روح الكاتب المتمردة فهو يقول فيها: "المهم أننا لا نعمل ولا ننتج ولا نتعب وراء أطفالنا. كل شيء يقوم به المجتمع، والذي لا يعمل لا ينتج..

ويأكل. وحتى الدفاع يبدو أنه ليس من مسؤوليتنا برغم أننا كذبنا على أنفسنا وقلنا: الدفاع عن الوطن مسؤولية كل مواطن ومواطنة، فنحن نعمل جاهدين على التنصل من هذا الواجب المقدس ، نحن دعاة سلام ومحبة وشعارنا (السلام عليكم ورحمة الله وبركاته) فعلى الإسرائيليين منا السلام والرحمة والبركة، وكذلك (الميركان)- الأميركان- وحلف شمال الأطلسي وحلف داود ، وعليهم أن يردوا علينا بنفس التحية وأحسن منها.. وتتألق سخرية الكاتب المرة بما يمكن قوله (شر البلية ما يضحك) إننا ننتظر من الإسرائيليين وحلفائهم أن يقولوا: السلام على الرابطة وتاجوراء ورأس لانوف والقدس وبغداد ، وفعلاً نحن ما حاجتنا بمصنع الأدوية في الرابطة أو رأس لانوف ما دام الحاج حسن جمع لنا كل الأعشاب التي تشفي من كل الأمراض حتى مرض العقل والقلب والنظر.. والكرومة أو الكرامة فإن المقابلة كانت قد شوّشت عندما كان الحاج حسن يشرح مفعول عشبة مهمة . وسمعت أنه قال: ضد دار الكرومة أو الكرامة وربما حتى داء الشيخوخة لأنه حسب سمعي قال: عشبة ضد الكبر أو الكبرياء. ثم يقول ساخراً: مساكين الإسرائيليون الذين يعيشون وأصابعهم على الزناد ليحتفظوا باحتلال فلسطين مسكين نورييغا وأورتيغا.. مساكين حتى الميركان الذين ينفقون المليارات لتسليح الفضاء دفاعاً عن أميركا .

      ألم يقل الكاتب الواقع هنا ، ألم يضع إصبعه على الجرح ؟ أليست كل البلاد العربية على هذه الشاكلة ؟ ما أقسى هذه السخرية وما أقواها في فضح ما لا نعترف به.. نحن الذين أصبحنا في ذيل الأمم. سخرية مضمخة بالغضب والثورة.. لماذا نحن هنا في الأسفل..؟ وأمم أخرى كانت دوننا وأصبحت فوقنا.. هذا هو الرمز في هذا النص والسخرية أصبحت لازمة من إنساننا العربي في حكمة القرود لا أسمع ولا أرى ولا أتكلم .

      المدينة هي شغل شاغل الكاتب ، إنها حاضرة في معظم النصوص بأشكال مختلفة ، يحاول أن ينساها ثم تعود هي إليه ، كما تتكرر التجربة من مكان إلى مكان، الفرار إلى جهنم، الموت، المدينة، القرية القرية إنها إشكالية البدوي القادم من الصحراء حيث يعيش حر، بينما عندما جاء المدينة كبلته وضيقت الخناق عليه، وفي الفرار إلى جهنم تبرز سخرية الكاتب وتهكمه خصوصاً إزاء "الدولة" التي نكرهها جميعا، فهذا البدوي الحر العضوي يرى في أميركا الظالمة ما نراه جميعا، لكن هذا البدوي يتجرأ ويضع المخرز في عيني أميركا. المواطن العربي ابن المدينة لا يتجرأ، لأن أنظمتنا، بعضها، إن لم يكن كلها عميلة لهذه الدولة البطاشة المتعجرفة، التي يظن قادتها أن كل الشعوب على وجه الأرض عبيد، لهم. لنلحظ هذه السخرية الطريفة الموجعة في آن، يقول الكاتب: لا أحمل شهادة دكتوراه..

فلا أحب الطبيب لأنهم يسمونه دكتوراً ، ولهذا لم يتمكن من تطعيمي ضد الحساسية، فأنا حساس جداً ، خلافاً لأهل المدينة الذين تم تطعيمهم منذ زمان بعيد ، وعلى جرعات تاريخية من أيام الرومان إلى الترك وأخيراً "الميلكان " وأنا كما تقرءون وتضحكون ، لا أنطق مثلكم كلمة  "الأميركان" أو "الأميركيين " ( بالراء ) بل أنطقها باللام، لأني لا أعرف معنى أميركا ، فالذي اكتشفها ليس كولومبوس بل أمير عربي، لكن هي تملك القوة وتملك العملاء.. وتملك القواعد في مناطق النفوذ، وتملك حق النقض لمصلحة الإسرائيليين وملكت أخيراً بيتاً عند نقطة تفرع فرعي دمياط ورشيد، وحوله مزرعة جاموس فهي إمبريالية ، إذاً هي "آميلكا" هكذا قال الحاج مجاهد ولد عمتي عزة بنت جدتي غنيمة أخت لا الكونتيسا ماريا " هنا ذروة السخرية عند الكاتب حيث يمزج الصور البيكاسية (نسبة إلى بيكاسو) فلا تبدو القصة نصاً وحسب ، بل لوحة لبيكاسو.. وأيضاً كاريكاتير لناجي العلي .

      وتعبر القصة عن إشكالية البدوي القائد الذي لا يستطيع أن يعيش بحرية، يتجول في الشوارع ، يشرب القهوة في مقهى على الرصيف ، ينتقل من بلد إلى بلد. إنها مأساة الحاكم من غير شك.

      يدخل الكاتب في هذا النص إلى الفانتازيا في الكتابة المتخيلة حيث الخيال يدعم التخييل في رصد الماوراء واللامعقول ، ولكن بأسلوب واضح في الترميز ما بين الواقع والخيال، واستحضار عالم آخر سواء ما حصل في أسطورة إرم ذات العماد أو ألف ليلة وليلة ورحلة السندباد، حيث الرموز تتلاحق لنستوحي منها الحكمة.

      ويستنبط الكاتب من سورة يوسف ليقدم لنا نص "ملعونة عائلة يعقوب ومباركة أيتها القافلة" الرموز ليؤكد على لعنة أبناء يعقوب الذين نراهم هنا اليوم، وهم الذين تآمروا على أخيهم يوسف في محاولة لقتله ففشلوا في النهاية ، إنها سلالة قائمة. على القتل دون أي ضمير أو محاكمة نفس ، فالمصلحة الأولى لهم ولو على حساب الشعوب .

      أما في: "افطروا لرؤيته " يعالج فيها الكاتب بطرافة وذكاء في آن موضوع رؤية الهلال في رمضان والأعياد، في الحقيقة هذه مشكلة أعيت المسلمين في كل مكان لتضارب الزمن والوقت بين بلد وبلد، ومع أن الحضارة الإنسانية حفت المشكلة بواسطة الأقمار الصناعية التي باتت ترى الهلال قبل أن يراه الإنسان ، فما زلنا على التقليد القديم نسعى لرؤيته بالعين المجردة ، ويتاح للكاتب هنا أن يسخر من الجنرال اشوارزكوف الذي كان قائداً لقوات التحالف أثناء الحرب لإخراج العراق من الكويت في شهر رمضان ، وفي مكان آخر تأتي السخرية على شكل وقائع وحقيقة: فـ: من الحقائق التي كشفتها لنا العلوم الحديثة وسرعة الاتصال التي كنا نعتقد أنه تسفل علينا وحدة الصوم ووحدة الإفطار، وبالتالي وحدة الحج لكن اتضح لنا أنه عندما تكون الجمعة في أندونيسيا يكون الخميس في ليبيا أي يوم 30 شعبان في ليبيا هو يوم غرة رمضان في مستعمرات جزر سليمان في المحيط الهادي، فإذا بلغت أندونيسيا هاتفياً عن رؤية هلال شهر رمضان تكون ليبيا في شهر شعبان.. وهكذا ثبت أن الرؤية لا يمكن إلا أن تكون محدودة.. ومحدودة جداً، وكل منطقة تصوم لرؤيتها.. هذه حقائق لا تخطر ببالنا كقراء ، ولكن الكاتب المتابع لكل أمور الحياة لفتت نظره هذه الإشكالية ، التي يمكن أن تتوحد باختلاف الجغرافيا والتاريخ .

       "دعاء الجمعة الآخرة " تكاد تكون تتمة للنص الأسبق حيث يستمر السرد بنفس الروحية واللغة. وطبعاً السخرية اللاذعة من أشياء ثبتت ولكن لا قيمة لها، كالسخرية من الكتب الصفراء، والأدعية التي ما من وراءها طائل. نص ساخر إلى آخر الحدود، ولكنه يضرب على الجرح ، الجرح الصغير والجرح الكبير، لأننا بسبب هذه السخافات التي ترويها الكتب الصفراء أصبحنا من الشعوب المتخلفة. إسرائيل في خمسين سنة أصبحت أقوى دولة في العالم، وما زلنا نتساءل هل الأكل بثلاث أصابع

أكثر حكمة من الأكل بخمس أصابع.. مع أن الشوكة والسكين وفرت لنا حل هذه الإشكالية عدا عن كونها أفضل نظافة من الأكل بالأصابع. ولا بد من الإشارة إلى أن الكاتب انتبه بحصافته وذكائه إلى أمور ظلت غافلة علينا نحن الكتاب فلم يسبق لأحد منا أن عالج هذه المسائل بمثل هذا الأسلوب الطريف والساخر واللاذع في أن "المسحراتي ظهر، " هي النص الأخير ، لقطة جميلة جداً تستحق التأمل ، لقد كتبت قصص كثيرة عن المسحراتي ، لكن الزاوية التي التقطها الكاتب جديدة وذكية، صحيح إذا كان المسحراتي هو الذي يوقظ الناس فمن هو الذي يوقظه فهو ليس مثل عامة الناس الذين يحتاجون إلى طبل ودعاء ودعوات وتكرار حتى يصحوا.. نحن كلنا نستغرب في شخص المسحراتي.. حقاً من أيقظه حتى يوقظنا.. ألا ينام المسحراتي؟ طبعاً ينام . المسحراتي بشر مثلنا يتعب ، وينام ، ويمرض أيضاً، أو على الأقل يحتاج إلى النوم والراحة، والعجيب أن يقظة المسحراتي تكون في وقت النوم، ويقوم بمهمته المقدسة تلك في أوقات الاستغراق في النوم.. إلخ.. ولا أدري لماذا الكاتب جعلها خاتمة الكتاب ، وعادة تكون الخاتمة مسكا. فالمسحراتي هذا الشخصية المحببة تدل إلى أي مدى تظهر إنسانيته في هذه المهمة الصعبة المقدسة في آن.

 بعد هذه القراءة العجلى لهذه المجموعة ، قد نتساءل أين الفن في هذه الكتابة ؟

    لقد كتب معمر القذافي حقائق بكل ما تعني هذه الكلمة من معنى ، ونحن نعرف أن الحقيقة موجعة عندما تصفعنا على وجهنا وأكاذيبنا وضعفنا ، وبما أن الزمن عنصر ذاتي- كما تقول فرجينيا وولف في الأمواج - بما أن الشخصية تتغير دون انقطاع، وبما أن الحياة مؤلفة من لحظات منفصلة تتحدى المنطق ، وبما أن القصة تصوير لها، فإنها يجب أن تعكس هذه الفوضى واللامعقولة وأن ترفض الأساليب التقليدية الموضوعية وطرائف الوصف الخارجية الخاضعة لتوقيت أجهزة الضبط الآلية ، يجب أن يتحرر الكاتب من عبودية العقدة في القصة أو الرواية، وأن يتحرر من الأحداث المفتعلة، وكل الأنماط الأدبية السائدة ليلتقط الحياة وهي تجري، وليسجل اللحظة بكاملها، مع كل ما تتضمنه من أفكار وأحاسيس مختلطة، من أحداث ومشاهد ممتزجة، الحياة ليست منظمة متساوقة كما يصورها لنا القصاصون والروائيون الإتباعيون ، وليس فيها للقصة من أثر. يقول برنار في "الأمواج "- وهو أحد أبطالها- "كم يأخذني الضجر من القصص المحبوكة كقميص الصوف.. وكم أرتاب في خطط الحياة التي ترسم على الورق مرتبة منسقة". ثم يتساءل: هل هناك من قصص "كما تتساءل فرجينيا وولف في روايتها (بين الفصول) هل عقدة القصة أو الرواية مهمة ؟ إن الغاية من الحبكة هو أن تثير انفعالات ومشاعر القارئ، لكنها في الحقيقة ليست ضرورية أبدأ. إنها لا شيء. ليس ثمة ما يدعو كاتب القصة أو الرواية إلى إزعاج نفسه بخصوصها واختلاقها، وتنميقها بطريقة مصطنعة.. إن كل لحظة هي مركز ومكان التقاء عدد لا حصر له من الاحساسات التي لم تفصح عنها بعد. الحياة تظل دائماً أغنى منا نحن الذين نحاول التعبير عنها ".

      لا أدري إن كان معمر القذافي قد قرأ مثل هذا الكلام لكن المؤكد أن ما جاء ينطبق كلياً على أدبه. لقد أخذ الحياة برمتها وكتبها دون فذلكة أو تقيد بما قاله هذا الناقد أو ذاك.. إن النقاد يفسدون العمل الفني عندما يحاولون أن يجدوا له قواعد ثابتة فلا قواعد في الفن والإبداع.. تماماً مثل الحياة ، أين قواعد الحياة الثابتة ؟ الكاتب ابن الحياة وهي النبع الأساسي.. وإلا ماذا يكتب الكاتب. إنها لسعادة لنا نحن الكتاب أن ينضم إلى صفوفنا هذا الكاتب  الجديد القديم بكل التداعيات الجديدة التي أثارها، وهي- تداعيات كتبت بأسلوب مختلف فكانت إضافة جديدة كل الجدة إلى أدبنا العربي المعاصر .

 ياسين رفاعية

 

المصادر :

1-    نظرية الأدب: رينيه ويلبن وأوستن وارين.

2-    مبادئ أولية للنقاد. لبواس.

3-    فائدة الشعر وفائدة النقد لـ ت. س. إيليوت.

4-    وجوه الرواية لفورستر.

5-    الأمواج لفرجينيا وولف.


 

 

جائزة القذافي الدولية لحقوق الإنسان - جميع الحقوق محفوظة   © 2005

جائزة القذافي الدولية لحقوق الإنسان