ورقة بحثية مقدمة إلى

أعمال الندوة الفكرية

حول إبداعات الكاتب والأديب معمر القذافي

 

 

( الأبعاد النفسية للإبداع عند الكاتب معمر القذافي )

 

                                                                                                    أ.د. يحي الأحمدي

                                                                                                    أستاذ علم النفس التربوي

                                                                                                    جامعة المنيا – مصر

 

أما قبل ...

 

 

    يقول فرانسيس بيكون : " المفكر المبدع يقرأ لا ليؤمن ويسلم.. بل ليزن ويفكر ".

حيث المفكر المبدع ليس تابعاً متلقياً اعتاد أن يكون صاغراً في مواجهة ما يملى عليه أدباً أو إعلاماً أو حتى ديناً.. بل هو خالق واقعه المختلف ومحرض مجتمعه على التغيير..

 

      حتى عندما يخذله الواقع القائم فلا يستجيب لطموحاته ، فإنه يهرع في دوماً إلى واقع آخر يخلقه خلقاً " مؤقتاً " ليجد فيه ضالته عندما يتأكد أن كل مفردات الواقع الحقيقي تأبى إلا أن تتصدى بقبح لطموحاته.. وهنا فإن المبدع يعمد إلى ما فعله أصحاب المدن الفاضلة (اليوتوبيات) ، فيحلق بمريديه في سماء واقعه المخلوق به لتحقيق طموحاته وتنفيذ أفكاره إلى أن يأذن الله بحدوث التغير التدريجي في الواقع الحقيقي .

       لقد اختار الكاتب والأديب معمر القذافي أن يصنع واقعاً ، وأن ينزل به من منصته إلى ساحة تابعيه.. واختار أن يتبنى سمات إنسانية تمكنه من أداء دوره التنويري في الساحة استكمالاً لدوره القيادي على المنصة.. واختار أن يخاطب الجمادات ويهرع إلى القوى الميتافيزيقية ليستعين بها في قهر الواقع الحقير الذي لم يرتضيه لشعبه.. كل ذلك وهو يزن ويفكر، لا يؤمن ولا يسلم إلا بما تسفر عنه التجربة الحقيقية التي يصر على إجرائها على أرضى الواقع المتخاذل بإصرار شديد على فرض كلمته عليه .

     ربما كانت الجمادات في إبداع معمر القذافي اكثر حنواً واكثر عوناً له ولتابعيه كقوة خيرة للطبيعة. لقد رآها أكثر جدوى وأقدر على الاستجابة لأفكاره ، فشخصها ومنحها سمات إنسانية نفسية تؤهلها لأداء الأدوار الطموحة التي يتمناها. لقد اختار معها الهروب إلى وليس الهروب من.. واختار مع تابعيه الفرار إلى الأمام وليس إلى الخلف.. واختار لنفسه الركض في اتجاه جديد، يعلم يقيناً أنه سيصل به إلى نقطة النهاية من طريق أقصر .. مستعيناً بقناعة جماهيره الذين نزل إليهم من برجه العالي واختصر المسافات بينه وبينهم ليصبح الكل في واحد أمام فكر مختلف وقوى مختلفة لتحقيق واقع مختلف .

      إنها تجربة جديرة بالريادة وجديرة بالتمحيص.. وجديرة أن يتعلم منها الناس أن العجز يولد العجز.. وأن " الرضا بالواقع المؤلم قناعة من نوع حقير ". إنها تجربة إبداعية تستحق الدراسة ، وقد حاولنا ذلك أو بعضه.. فلعلنا.. ولعلها .

      إن دراستنا للمجموعة القصصية للأديب والكاتب معمر القذافي " الأرض الأرض ..... القرية القرية.. وانتحار رائد الفضاء " على المستوى النقدي من جهة ، وعلى المستوى السيكولوجي من جهة ثانية ، وعلى مستوى التحليل الإبداعي من جهة ثالثة لحم تفعل أكثر من أنها فتحت الباب أمامنا- باشتهاء- للمزيد من الدراسة التي ينبغي أن تحظى بها المجموعة ، كسفر أفكار ومعجم قيم لزعيم اختار أهدافاً جديدة ونمطاً فكرياً جديداً وأسلوب طرح جديد.. فكان متميزاً في ثلاثتهم . ويبقى أن تمتد الأيدي المحايدة غير صاحبة الأحكام المعدة سلفاً لتترف على ما في هذا الفكر من كوامن إبداعية وتوصيف " إلهامي " يرقى إلى مرتبة التنبؤ بـ " القادم "  بعد أن قرر صاحبه أن يكتفي بما فعله الآخرون بـ " الماضي ".. وألا يربط أمتعته بحبال غيره.. حذراً من نذالة منتصف الطريق .

 

د. يحيي الأحمدي


 

أولاً : الأبعاد النفسية للإبداع عند الكاتب والأديب معمر القذافي

 

      استطاع علم النفس من خلال الدراسات العديدة التي قام بها علماؤه عن الإبداع والمبدعين طوال نصف القرن المنصرم، أن يتوصل إلى أن ثمة عوامل أو سمات إبداعية أساسية ينبغي أن تتوفر في الكاتب أو الأديب حتى يمكن وصفه بالكاتب أو الأديب المبدع. ومن دون توفر تلك العوامل أو السمات يستحيل أن يتحدث أحد عن وجود " إبداع " في عمل أدبي أو فني على أي مستوى من مستوياته مهما شهد الناس للعمل بابداعيته .

      وقبل أن ندلف إلى التحليل الإبداعي لأعمال الأديب معمر القذافي المتمثلة في مجموعته القصصية " القرية القرية..... الأرض الأرض .. وانتحار رائد الفضاء "، يجدر أن نستعرض باختصار تلك العوامل أو السمات الإبداعية المتطلبة للحكم على العمل الإبداعي ، وتلك العوامل هي :

 

أولاً : الطاقة الفكرية Mental Fluency

      ويقصد بها سيكولوجياً " القدرة على إنتاج أكبر قدر مرا الأفكار الإبداعية "، أي أن المبدع- في أي منحى من مناحي الإبداع - ينبغي أن يمتلك درجة عالية مرا القدرة على سيولة الأفكار وسهولة توليدها . وعليه فإن على المبدع - سياسياً كان أم أديباً أم فناناً - أن يستطيع تقديم الحلول المتعددة لأية مشكل يواجهها في إدارته للحكم أو في إبداعه الأدبي أو الفني. ويذكر مثلا أن عالم النفس كليمنت أتلى قد ذكر عن السياسي البريطاني " ونستون تشرشل " أنه كان يقدم على الأقل عشرة أفكار تمثل حلولاً لأية مشكلة تعرض عليه أو يتعرض لها.....

 


 

ثانيا: المرونة التلقائية Spontanous Flexibility  

   وتعني سيكولوجبا " القدرة تغيير الحالة الذهنية بتغير الموقف " ، بمعنى قدرة الفرد على تبنى حالات فكرية وذهنية جديدة ومتغيرة تتناسب مع المواقف التي يلاقيها أو يكتب عنها ويطلب منه التعامل معها إبداعياً . وهي قدرة- كما يلاحظ- على النقيض تماماً مرا حالة أو سمة الجمود الفكري التي تفرض على الفرد تبنى أنماط محددة وقوالب جامدة مهما اختلفت المواقف وتباينت الحالات التي بقوم بمواجهتها. وبالطبع فإنه كلما تغيرت توجهات الأديب أو السياسي أو الفنان وانتهج نمطا فكريا جديدا يناسب حدوث تغير يطرأ على الموقف، كلما وصفا بأنه يمتلك " مرونة تلقائية " تضعه- هي والعوامل الإبداعية - الأخرى على طريق وصفه بأنه شخص مبدع .

 

ثالثا: الأصالة Originality

    ويقصد بها سيكولوجيا " إنتاج أفكار جديدة غير مسبوقة لا تكرر أفكار الآخرين ولا تنسج  على منوالهم ، أفكار غير تقليدية تقدم حلولاً للمشكلات التقليدية وغير التقليدية على حد سواء ".    وهي بهذا المعنى تشير إلى قدرة الفرد على مباغتة المتلقي بتصورات وأفكار ليس لها تاريخ - ولو قصير- لدى المتلقي ، إلى حد لجوء المحللين النفسيين والنقاد إلى وصف تلك الأفكار " بالإلهام " في كثير من الحالات . ويعتبر هذا العامل من أهم عوامل الإبداع الأساسية ، أو لنقل أنه يقف على رأس تلك العوامل .... نظرا لما يعبر عنه من امتلاك المبدع للجدة والطرافة والحداثة Recency  " في موضوع إبداعه ، بحيث يمكن القول بأنه لم يسبق إلى الحل الذي  يقدمه أحد لا من قريب ولا من بعيد .

 

رابعاً : الحساسية للمشكلات Sensitivity to Problems

    ويقصد بها سيكولوجياً " قدرة الفرد على إدراك المشكلة ، في الوقت الذي قد لا يدركها فيه غيره ، أو على الأقل فبله " .  وهذا يعنى ببساطة امتلاك المبدع للإحساس المرهف بنواحي القصور في الأمر المطروح أو الموصوف أو المشاهد ، وذلك توطئة لفهم الغموض المحيط بالمشكلة والسعي إلى سد الثغرات وتقديم الحلول عبر قصة أو رواية أو نظرية علمية أو غيرها .   ولا يمكن بحال أن نطلق وصف المبدع على أديب أو كاتب تمر به المشكلات- أو يمر بها - مرور الكرام وكأنه لم يرها ، بينما كان من المفترض أن تلتقط قرون استشعاره مظهراً من مظاهر المشكلة أو أبعادها قبل أن يلتفت إليها أحد ممن حوله.. بل لعله كان ينبغي أن يستبق الزمن ، فيتنبأ بظهور مشكلة ليس لها وجود الآن البتة .. ليعمد إلى صياغة حلول تنتظرها عندما تظهر بعد حين ، مضمناً تلك الحلول في عمله الإبداعي القصصي أو الروائي .. أو حتى التنظيري الفكري أو الفلسفي أو السياسي .

 

خامساً: التركيز لفترات طويلة Continuous Condensing

     ويقصد بالتركيز لفترات طويلة على المستوى السيكولوجي " القدرة على مواصلة التيقظ والانتباه للهدف المقصود في العمل الإبداعي لفترات طويلة " . ففي إبداع كتابة قصة أو رواية مثلاً ، يكون المطلوب أن يعود المبدع كل فترة لاستكمال عمله فيها ، حيث هو لا ينجزه في جلسة واحدة في الأغلب ، وهو في تلك الحال يكون محمياً بالقدرة على التركيز لفترات طويلة - إن وجدت لديه- من التشتت ونسيان الهدف وفقدان الحماسة لمواصلة الدفاع عن أفكاره المتضمنة في العمل ، أو الركون إلى طرق فرعية مغرية تلهيه عن الخط الرئيسي المؤدى لتحقيق الهدف .

   

    وقد لوحظ في دراسات عديدة أجريت في مجال الإبداع الأدبي أن الأدباء وكتاب الروايات كانوا يذكرون الكثير عن استمتاعهم الشديد بالمعايشة الفكرية لأعمالهم طوال فترة إبداعهم لها ، وأن العمل الإبداعي الذي يقومون به وشخوصه لا يمكن أن تغيب عن أذهانهم أو خيالهم ، حتى وهم في غير مواقف الكتابة والإبداع .

 التحليل الإبداعي للمجموعة القصصية للأديب معمر القذافي في ضوء عوامل الإبداع :

     بعد هذا الاستعراض السريع لعوامل الإبداع الخمسة بعامة.. يجدر بنا أن نتوجه إلى التحليل الإبداعي لأعمال الأديب معمر القذافي ، لمعرفة مدى توفر تلك العوامل الإبداعية في إنتاجه الأدبي ، مستدلين على هذا التوفر - بالأمثلة الحية المقتطفة من قصص مجموعته القصصية "  القرية القرية.. الأرض الأرض.. وانتحار رائد الفضاء " ...

 

1- عامل " الطاقة الفكرية " في إنتاج الأديب معمر القذافي :

    يكشف التحليل الإبداعي لمجمل قصص الأديب معمر القذافي في مجموعته ، عن توفر عامل الطلاقة الفكرية " القدرة على إنتاج أكبر قدر من الأفكار الإبداعية " بشكل كبير .. وبإمكاننا أن نورد واحداً من الأمثلة على ذلك ، من قصة واحدة من قصصه وهي قصة " المدينة ".. لنرى نموذجاً واضحاً لهثت ا الزخم الفكري الإبداعي . يقول الأديب عن المدينة  (المدينة كابوس الحياة وليس بهجتها...... المدينة مقبرة الترابط الاجتماعي...... المدينة. مجرد حياة دودية بيولوجية...... المدينة دخان وأوساخ...... المدينة تقليعة ، صيحة، انبهار ، تقليد غبي ، استهلاك لعين ، مطالب بلا عطاء مجد ، وجود بلا معنى...... المدينة ضد الزراعة...... المدينة ضد الإنتاج...... المدينة بطبيعة حياتها ضد الصبر وضد الجدية والجهد...... المدينة تقتل الحس الاجتماعي والمشاعر الإنسانية وتخلق التبلد واللامبالاة......).

   وهكذا نرى في قصة واحدة هي قصة " المدينة " هذا القدر الكبير من الأفكار الإبداعية ، أربعة عشر فكرة إبداعية أو ابتكارية Creative  لوصف تلك الحال المزرية للمدينة ، كل فكرة منها تصلح عنواناً لقصة مستقلة أو إرهاصة لبحث علمي جاد أو محورا لمؤتمر بيئي عالمي ، تدفق فكرى يعني بكل تأكيد أن صاحبه يمتلك زمام الإبداع في أعلى مستوياته ، ويستحق عن جدارة أن توصف أعماله بأنها أعمال إبداعية ابتكارية غير منسوخة أو مكررة نقلا عن آخرين سواء بشكل مباشر أو غير مباشر .

      وسوف تزداد قناعتنا بتلك النتيجة التحليلية إذا ما قرأنا ما كتبه الأديب المبدع معمر القذافي  تفسيراً تحت كل فكرة من تلك الأفكار.. هنا سوف نجد زخماً من الأفكار " التابعة "، التي قد لا تقل أهمية عن الأفكار " الرئيسة "، خذ مثلا واحداً :

(المدينة تتمدد في كل اتجاه.. وليس لانتشارها حدود.. فهي تتطحلب على كل شيء حولها، وتفرد أخطبوطها لتنثر سمومها ، وتقتل الهواء النقي.. وتحول الأكسجين إلى ثاني أكسيد الكربون.. وتحول ثاني أكسيد الكربون إلى أول أكسيد الكربون.. وتشوه صورة الطبيعة.. وتعتم المرآة الطبيعية.. وتنفث الدخان والأبخرة والغازات فتخنق النفس وتلوث كل شيء.. وتحجب النجوم والقمر وحتى الشمس .. وتصدح.. وتصرخ.. وتزمر.. وتضج.. فتسمخ السمع وتسبب الصداع وتوتر الأعصاب.. تتمدد لتلتهم الأرض الزراعية ، وتلتهم القرى المجاورة لتطويها تحت جناحها القذر الكاتم للنفس.. فتعشق أسنانها التي هي على هيئة طرق ومبان ومرافق ومناكب وأظفار ، تعشقها في تلك القرى الصغيرة المعزولة الآمنة الهادئة ، وإذا بها ضاحية ، ثم طرف ، ثم جزء لا يتجزأ منها ، فيتم طحنها بكلكل صحية مزهرة.. إلى خلية مظلمة قائمة مريضة ، جزء من كل ثقيل مريض.. مجهد بلا إنتاج.. متعب بلا عمل.. عائش بلا هدف.. موجود بلا غاية............).

 

2. عامل " المرونة التلقائية " في إنتاج الأديب معمر القذافي :

     كشف التحليل النقدي عن توفر هذا العامل الإبداعي " قدرة الفرد على تبنى حالات فكرية وذهنية جديدة ومتغيرة تتناسب مع المواقف " في أعمال الأديب معمر القذافي بدرجة كبيرة.. وليس بمقدورنا بكل أسف أن نقدم في هذا الصدد أمثلة بعينها ، وإلا لنقلنا جل القصص للتدليل على توفر تلك الحالة أو القدرة أو العامل.. وسوف نكتفي بإحالة القارئ إلى قصة المدينة مثلا ،  كي يكتشف بنفسه تلك القدرة العمالقة لدى الأديب على التنقل من حالة ذهنية إلى حالة أخرى بمرونة رائعة.. من كراهية حادة للمدينة ومفرداتها إلى تحمس شديد للقرية وسكانها ، من سخط واضح على المجتمع المديني الكئيب إلى تعاطف ودود في ذات الوقت مع أفراده المظلومين.. من مخاطبة حوائط المدينة . وشد اليد عليها كبديل أكثر رحمة من أهلها إلى الحنو الأمومي على أطفال المدينة وذرف الدموع من أجلهم .

      إنها القدرة الإبداعية المسماة بالمرونة التلقائية بعينها ، انسيابية في التنقل لا يشعر بها القارئ .. نعومة في استراق الاهتمام من بؤرة مركزية في القصة إلى بؤرة قد تكون في أبعد نقطة عنها أو في الجهة المقابلة لها ، وكأن القارئ لم يخط خطوة واحدة في انتقاله فقد سرقه الكاتب المبدع وأركبه بساط ريح ذهني أعانه على مجاراته في سرعة التنقل من الحالة الذهنية إلى الحالة الأخرى، معطياً لكل حالة أفكارها المناسبة دون شطط أو تزيد.. ودون تسفيه أو بخس أيضاً يبدو هذا في قصة " المدينة " بوضوح شديد ، وفي القصص الأخرى المزيد من الدلائل..

 

3. عامل " الأصالة " في إنتاج الأديب معمر القذافي :

    كشف التحليل الإبداعي للمجموعة القصصية عن توفر هذا العامل " إنتاج أفكار جديدة غير مسبوقة لا تكرر أفكار الآخرين ولا تنسج على منوالهم ، أفكار غير تقليدية تقدم حلولاً للمشكلات التقليدية وغير التقليدية على حد سواء " بدرجة كبيرة.. ويمكننا أن نقدم أمثلة متعددة من قصة واحدة من أعمال الأديب وهى قصة " المدينة":

( تكبر العمارة وتصبح الحيثية لقاطنها رقماً فحسب.. فلا يقال فلان ابن فلان بل يقال رقم كذا...أنت الذي نسكن الشقة رقم كذا ، في الطابق رقم كذا، صاحب الهاتف رقم كذا ، والسيارة رقم كذا .... الخ ) .

- (عندما تقف لمصافحة صديقك أو قريبك الذي قد نجده مصادفة ، يداهمك المارة.. ويجرونك بعيداً عن صاحبك .. وقد يحولون بينك وبينه ، فيدك التي امتدت لتصافحه ، تجدها قد ارتطم بها مار غافل لا يقدر الموقف ، ولا يدرى به....) - (... وفي شوارع المدينة يتساوى الآدميون والقطط...)- (... في المدينة يحترمك الحائط اكثر من البشر....) - (... من هوامش المعيشة في المدينة أن تتقبل غصباً الأوساخ ، وأن تعطي ياقة " قميصك " للدخان والغبار ، وعليك أن تعرق بلا عمل عرقاً رطباً ...) .

والأمثلة في غير تلك القصة أكثر من الإحصاء..

 

4. الحساسية للمشكلات إنتاج معمر القذافي

      وقد كشف التحليل النقدي لمجموعة معمر القذافي القصصية عن توفر عامل الحساسية للمشكلات " قدرة الفرد على إدراك المشكلة في الوقت الذي قد لا يدركها فيه غيره " لديه بدرجة كبيرة.. ومن الأمثلة الحية على توفر هذا العامل ما جاء في قصة " المدينة " ، حيث وضع الكاتب المبدع يده في أكثر من موضع على سر المشكلة ومفتاح حلها وكأنه يستبصر ولا يبصر.. وكأنه امتلك البصيرة إلى جوار البصر..

   

    وكأن إلهاماً خفياً يمده بمدد فكرى يرى به ما لا يراه ضميره.. خذوا تلك الأمثلة البينة :

(... ليس العيب في ساكني المدينة أبدأ......... العيب في طبيعة المدينة ذاتها، بما تفرضه على الناس من تكيف تلقائي تدريجي حتى يصبح سلوكاً معتاداً بمرور الزمن في المدينة.)- (... وكل تلك المنظمات المدينية لا تشكرك إذا قمت مقامها متطوعاً أو مساعداً.. بل تتحسس منك وتغار ، لأنك تنافسها فيما هو مبرر عيشها في المدينة ...)- (... فإلى أين أنتم ذاهبون أيها الأطفال الأبرياء ، تلك بيوت الناس.. إنكم لا تعرفونهم. أن الذين كانوا هنا انتقلوا، هؤلاء جدد ....)- (... نعم إن بحر المدينة متل أي بحر له مهالك وب!ليع وحيتان خطرة.. فكيف يتسنى للأطفال العيش فيه.. ولكن هم فيه.. ما الحل.. الحل هو الضغط على الأطفال وضربهم وإجبارهم على التقوقع والانكفاء والانكسار النفسي وقمع انطلاقاتهم وحرمانهم من النور والهواء....)- (... طفل المدينة ينمو بيولوجياً ولكنه سيكولوجياً هو وعاء لكل تلك الكبوحات والقموعات وعوامل الزجر والقهر.. فهو نموذج إنسان العقد والأمراض النفسية.. والإنطواء والنكوص ، وهذا هو سر ذبول القيم الإنسانية والروابط الاجتماية و دم الإحساس بالغير.. فقدان الترحاب والمباجلة وكذلك الغيرة.).

     هذا مجرد نموذج لحساسية القائد المبدع والأديب المبتكر معمر القذافي.. يحكي

مشكلات شوارع المدينة وكأنه واحد من سكانها ضليع في المعيشة بها ومعاقرة سوءاتها.. إنها الرصد عن بعد.. إنها اتساع القدرة على الاستقبال الذهني حتى لمحطات المشكلات بعيدة المكان ضعيفة الإرسال.

 

5- التركيز لفترات طويلة في إنتاج معمر القذافي

   لقد كشف التحليل عن صعوبة- وليس استحالة- استنتاج توفر هذا العامل " قدرة الفرد على إدراك المشكلة في الوقت الذي قد لا يدركها فيه غيره " في الأعمال الأدبية

عند الكاتب معمر القذافي، ذلك أنها حالة خاصة لا تتم ترجمتها على الورق الإبداعي أو الإعلان عنها ضمن أحداث العمل الأدبي. انها حالة شبيهة بمحاولة الحكم على مدى سعادة أو حزن الممثل الذي يؤدي في دوراً  كوميدياً أو تراجيدياً.. فقد نراه ينتزع الضحكات من المتفرجين بينما هو غارق في أحزانه، وقد تكون حالته الخاصة شبيهة بحالته التي يقدمها للناس .

    وعموماً فقد استطعنا- باجتهاد- أن نستنتج أن كاتباً يمكنه أن يستمر عبر قصة قصيرة- كقصة المدينة مثلا- وهي تقع في تسع عشرة صفحة ويستحيل أن تكتب في جلسة واحدة ، ومع هذا لا يمكن أن يضع القارئ فاصلا بين جزء وجزء فيها بحجة أن الإنفصام بينهما واضح وجلى.. أقول بأن كاتباً كهذا المبدع لابد أن يكون قادراً على الاحتفاظ بتركيزه في عمله الإبداعي لفترات طويلة، ولا بد أن يكون ممتلكاً لذلك العامل الإبداعي بدرجة كبيرة . والقول ذاته يمكن أق ينطبق على قصة " الموت "، التي تقع في ثمان عشرة صفحة. هذا من ناحية الكم.. أما من ناحية الكيف ، فإن التنوع في الأفكار الذي ورد في قصص الأديب معمر القذافي لا يمكن أن يكون وليد حالة مزاجية واحدة بنت ساعة واحدة ، مما يؤكد على أن معظم قصصه مجموعته قد

كتبت على فترات متقاربة أو متباعدة.. وبالتالي في حالات مزاجية متفاوتة ، ومع هذا .. ولأن الأديب المتمكن ظل محتفظاً بتركيزه في أهداف وأحداث وشخوص واستدلالات عمله الإبداعي ، فإن العمل جاء متسقاً ومتسوقاً.. لا تكاد ترى فيه من تفاوت حتى لو أرجعت البصر كرتين .

     إن هذين الدليلين يقدمان- جنباً إلى جنب مع الانطباع التسلسلي غير المنبت الذي

يخرج به قارئ كل قصة- شهادة تميز إبداعي للأديب في أحد عوامل الإبداع وهو ما يعنى امتلاك الكاتب المبدع للقدرة على التركيز لفترات طويلة.

        وبهذا الاستعراض يمكن أن ننتهي إلى أن الكاتب والأديب معمر القذافي، وطبقاً للتحليل الموضوعي الاستشهادي لمجمل أعماله، يندرج بجدارة تحث فئة الأدباًء

المبدعين الممتلكين لكل أدوات الإبداع بدرجات تفوق النسبة المتوسطة المتطلبة للحكم بتوفر صفة الإبداع عن الكاتب. وليست هذه النتيجة بمستغربة على زعيم عرف الناس عن أفكاره أنها تحمل الطليعية المستنيرة ، وقد قدمها قبل أعماله الأدبية في أكثر من ساحة ثورية أو مجتمعية إبداعاً سياسياً غير مسبوق، زعيم حكم الناس على فكره السياسي- قبل أن تعرف فكره الأدبي- أنه يمتلك من الأصالة كفكر جديد، والمرونة كحالات ذهنية متباينة في المواقف المختلفة- حتى لو بدا للبعض بعض التشابه بينها، والطلاقة كزخم من الأفكار الإبداعية للمشكلة الواحدة ، والحساسية للمشكلات كقدرة على التنبؤ بالمشكلات العالمية والإفريقية والعربية قبل حدوثها بشهادة الجميع حتى الأعداء، ما مكنه من تبوء مكانته العربية والإفريقية    إنه كاتب إبداعي قبل أن يكون زعيماً مبدعاً.. وزعيم يملك ناصية الإبداع قبل أن يعمد إلى تقديم نفسه ككاتب مبدع.. وتلك لعمري صفات قل أن تتوفر في أحد.

 ثانيا: سمات الكاتب المبدع عندما يقرر أن ينتقل من "المنصة" إلى "الساحة"

   لا يحدث كثيراً أن يعمد زعيم سياسي إلى كتابة الأدب وهو في أوج السلطة.. فمعظم من انتهجوا الإبداع الأدبي مرا القادة أو الزعماء- وهم قلة- فعلوا ذلك بعد مغادرتهم لسدة الحكم. وقد اعتبر بعض النقاد أن هذا التوجه منهم نحو الأدب كان لملء الفراغ والتعويض بعد أن كان الوقت ممتلئا حتى آخره بالأعمال والاجتماعات والمقابلات والشهرة والأضواء. أما في حالة الزعيم الأديب معمر القذافي، فنحن أمام حالة غير مسبوقة.. فقد لجأ القائد إلى كتابة الأدب - القصصي على وجه التحديد- وهو في ريعان زعامته، وكأن هاجساً قيمياً ملحا يدفعه إلى ذلك دفعا.. وكأن رسالة أخلاقية رأى القائد أن الحديث فيها من فوق المنصة ليس كافيا وربما ليس مقنعا لتوصيلها أو تحقيقها.. لقد قرر الزعيم خوض تلك التجربة الأدبية الرائدة وهو في أوج الانشغال بالسلطة والوقوع في أسر أضوائها وبريقها.

    هذا من ناحية.. أما من الناحية الأخرى، فإنه يبدو أن امتلاك القائد لأدوات الإبداع

الأدبي كان ملحا إلى حد كبير.. إلى حد أق انتزعه من مشاغل وأعباء الحكم لينزل من منصته ويقول للناس كلمته التي أراد لهم أن يدركوها ويفطنوا إليها فراح إلى ساحتهم رجلاً عاديا مثلهم عن طيب خاطر.. لم يتميز عنهم سوى بأنه رجل يمتهن بينهم الأدب ويطرح عليهم الإبداع. هذا هو كل شئ ولا شيء غيره .

   كان لابد والحال هذه.. أق نمارس العمل النقدي السيكولوجي على هذا المبدع الذي سلمنا بإبداعه في التحليل الإبداعي السابق، لنترف على ذلك التغير الذي يمكن أن يحدث في السمات الشخصية للزعيم المبدع عندما يقرر طواعية أن ينتقل من سلطة المنصة إلى " تابعية الساحة ".. وندرك عن كتب هذا الاختلاف في السمات، هل هو في ذلك الحالة بينا عميقا أم سطحيا مؤقتا..؟؟

     لقد توصلنا- أو نحسب- إلى عدد من السمات التي بمكن أن يقال عنها أنها سمات مبتكرة تلبست القائد فأحسن صياغتها وأجاد التآلف معها لإكمال دوره القيادي الذي بدأه من فوق المنصة ، ثم غادرها مؤقتا ليكمله بين الناس ثم يعود إليها مرة أخرى.. في انسجام وتصالح مع الذات ، وتوافقية نفسية في أعلى مراتبها .

 وتلك السمات الجديدة التي توصلنا إلى أنها طرأت على الكاتب المبدع هي:

 

4- التبعية لقوى ميتافيزيقية بديلة :

    المنطق العقلي يقول بأنه بحكم وضعية القائد الزعيم متربعا على عرش منصته التي يخاطب منها تابعيه وجماهيره، فإنه غير تابع لأحد من قوى مجتمعه مهما كبرت، فكلها تستظل بجناحه وتنضوي تحت عباءته الأقوى دائماً . أما بانتقاله من المنصة إلى الساحة لتحقيق أو إكمال في دوره أو أدواره القيادية فهو يتخلى طواعية - ومؤقتا- عن دور القائد والزعيم ، وينخرط بين تابعيه كواحد منهم. وهنا يبرز السؤال المهم : إن كان القائد قد أصبح من التابعين واندمج فيهم.. فلمن- جميعاً هو وهم- يتبعون، وقد خلت المنصة من قائدها ، " القوة الحقيقية " التي كان يتبعها التابعون قبل نزول القائد منها وتلاحمه معهم..؟؟ إن القائد المبدع استطاع أن يدرك في تلك اللحظة الحرجة الحاجة الماسة لتابعيه- وهو منهم الآن- لأن يشير لهم نحو " قوة بديلة أخرى " تصلح ، غير تلك القوة التي غابت بنزوله من المنصة أو خلت المنصة منها بنزوله إلى الساحة ، حيث يستحيل أن يستقيم أمر التابعين دوق وجود قوة أكبر منهم تبرر التبعية.. وإلا فلمن يتبعون وهمن يخشون..؟؟ هذا القائد المبدع الذي ارتضى أن ينزل إلى الساحة، عمد إلى أن يستعين في كتاباته الإبداعية بقوى أكبر من (وليست أصغر) من القوة التي كان عليها وهو على المنصة، وبالطبع لا يصلح أق نكون هذه القوة شخصاً آخر أو مجموعة أشخاص لأن هذا سوف يفقده أحقية في القيادة بحكم وجود من هو أقوى منه..!! وهنا يجد القائد المبدع ضالته في " القوى الميتافيزيقية " أو قوى الطبيعة، كالأرض أو السماء أو الجبال أو جهنم أو الموت...... إلى آخر تلك القوى الميتافيزيقية المهيمنة على الطبيعة إيجاباً أو سلباً.

      لكنه لا ينسى أن يعود إلى إحساسه بحاجة الجموع التي يخاطبها إلى قوة القائد وشجاعة الزعيم حتى لو كان بينهم تابعاً مثلهم في الساحة وليس منتصباً أمامهم على منصته.. من ينفلت القائد المبدع - مدفوعاً بذلك الإحساس- إلى محاولة قهر الخوف داخلهم وفى عمهم في مواجهة تلك القوى التي أشار لهم إليها كبديل موضوعي مهما كانت قاهرة.

     إن الأمثلة على هذه السمة التي توفرت في القائد المبدع معمر القذافي في إنتاجه الأدبي أكبر مما تحصى.. فقد أشار لقرائه وتابعيه في قصة " الموت " إلى الموت كقوة قاهرة ، ثم علمهم كيف يواجهونه بصدور عارية لا تهابه ، وكيف يتصدون لجبنه المستتر بشجاعتهم الباقية.. تماماً كما فعل أبوه..

 (... فالموت ذكر وليس أنثى، ومهاجم دائماً ، ولم يكن يومأ في حالة دفاع حتى لو هزم.. وهو شرهـا وشجاع.. ومخادع وجبان في بعض الأحيان.. والموت يهزم ويرد على أعقابه خاسراً مدحوراً ، ليس كما يظن أنه ينتصر في كل هجوم. كم من معركة مقارعة وجهاً لوجه خارت فيها قوى الموت وتراجع مثخناً وولى منهزماً...... كم من ضحية افترسها الموت وهي في غفلة منه هانئة مطمئنة... وكم من ضحية افترسها وهي نائمة حالمة في سبات عميق......... إذن لا ترحموا الموت ولا تسترحموه ، فالأمر مقضي بيننا وبينه ، فهو عدو لدود لا صلح معه ولا أمل فيه فلا ترحموه ولا تتخاذلوا أمامه...... فعليكم مقاومة الموت لإطالة أعماركم.. مثل أبى الذي لحم يستسلم له يوماً وقاتله . دون خوف منه حتى بلغ عمره مئة سنة، برغم أنف الموت الذي أراد أن ينهيه في الثلاثين.. فالموقف الصحيح هو المواجهة.)

     كما أشار لهم في قصة " الفرار إلى جهنم " إلى جهنم، سواء أكانت جهنم هي تلك الواحة شديدة الحرارة التي تقبع في صحراء ليبيا، أو كانت جهنم الآخرة عظيمة الشأن التي تنتظر العصاة والكفرة.. لقد علمهم كيف يفرون إليها لا منها تماماً كما فعل هو فراراً من محاصريه وخانقيه وكاتمي أنفاسه بأنفاسهم واستجواباتهم.. قال لهم: يصورونها لنا مرا خيالهم المريض.. أصفها لكم أنا الذي سلكتها بنفسي مرتين وتمكنت من المنام والراحة في قلب جهنم...... إن الطريق إلى جهنم مفروشة بالبساط الطبيعي على امتداد الأفق...... وبعد انحسار البساط وجدتها مفروشة بالرمل لناعم.. وصادفتني أسراب من الطيور البرية.. بل وجد حتى بعض الحيوانات المستأنسة ترتع وتفلي...... لم اسمع لها زفيراً ، ولكن جهنم ساكنة تماماً وهادئة للغاية ويحوطها سكون عجيب. .... لم أر لهباً، ولكن الدخان فقط بخيم فوقها.. انحدرت نحوها بشوق مسرعاً في الخطى قبل مغيب الشمس أملا في الحصول على مرقد دافئ.......).

 

       كما أشار لهم في قصة انتحار رائد الفضاء " إلى المصير الذي انتهى إليه رائد لفضاء الذي يمثل إلى حد كبير الهيمنة الأمريكية أو التحضر المديني، فحكى لهم كيف !شل في الصمود في مواجهة البساطة العنيدة لواحد منهم، هو ذلك الفلاح الضعيف القوي بنفسه وأرضه وزعامته .

 

    لنقرأ بعضاً من تلك القصة لنرى كيف يمكن أن يجرى القائد المبدع عملية  جراحية لشعبه وتابعيه- وهو بينهم- ليستأصل منهم الخوف والوجل، حتى مما- أو ممن- هو أقوى منهم.. حتى لو كانت قوى طبيعة أو قوى بشرية عملاقة بطبعها أو متعملقة. يقول الكاتب المبدع في قصته " انتحار رائد الفضاء ":

  (وخلع رائد الفضاء ملابس المركبة الفضائية وارتدى بدلنه العادية المناسبة للسير والمعيشة فوق الأرض.. وانتهت مهمته مع مؤسسة الفضاء.. وصار يبحث عن عمل أرضي فدخل محل نجارة فلم ينجح في هذه الحرفة البسيطة......... فخرج من المدينة الصناعية فاشلا مدحوراً.. وتحول إلى الريف وبدأ يبحث عن عمل يرتزق منه وأهله في ميدان الزراعة...)- (... وربما تصدق الفلاح على رائد الفضاء المشمول المسكين.. وانصرف عنه، فانتحر رائد الفضاء بعد أن آيس من الحصول إلى عمل يعيش به فوق الأرض ).

        هكذا إذاً تكون تبعية القائد- الذي ليس تابعاً بطبعه- لقوى أكبر قد يجدها على الحال التي يريدها عليه، أو يخلقها خلقاً ويصيغها صياغة على الحالة والحجم الذي يتعمد أن يكون أكبر منه ومن جماهيره.. !صبح هناك طعم ولذة للإحساس بالانتصار والعلو ندما يقهرها أمام تابعيه وجماهيره.. قبل أن يحرضهم على مواجهتها وهزيمتها، ويعلمهم كيفية ذلك.

 

2- العدوانية مع وليس العدوانية ضد  :

   لا يجد القائد سبيلا وهو بين جماهير شعبه في الساحة بعد أن غادر من أجلهم المنصة إلا أن يتحول بالعدوانية ضد " التي كان من المفترض أن يوجهها لهم أو ضدهم وهو على المنصة ، عقاباً لهم وتعنيفاً على تقصيرهم أو تقاعسهم أو تواكلهم أو عجزهم أو تخاذلهم في تنفيذ أفكاره ومعتنقاته ، إلى " عدوانية مع " يوجهها- بالتحالف مع قرائه أو تابعيه- إلى هدف آخر عداهم. هذا التحول الذكي في السمة الإنسانية لدى القائد يكون حتمياً وضرورياً وملحاً لتهيئة أهل الساحة- التابعين- شعورياً أو لاشعورياًً للالتحام في مواجهة القوى الميتافيزيقية التي أشار إليها القائد المبدع في أعماله وعلمهم كيف يقهروها ولكنهم هذه المرة سيفعلون ذلك ليس بمفردهم بل في معية " القائد التابع " وبالتعاون مع عدوانيته " الأصيلة " في مواجهة ما يقف في طريق أفكاره الإصالحية التي يقدمها لأهله بعد أن انتقل بعدوانيته طواعية من مواجهتهم إلى صفوفهم .

     ونحن نجد أمثلة رائعة على ذلك في قصة " دعاء الجمعة الآخرة "، و قصة المسحراتي ظهراً " وغيرها..

 3- التواضع المغرور أو الغرور المتواضع :

     تفرض الحكمة وبعد النظر اللتان يمتلكهما القائد.. إضافة إلى السلطة التي تنازل عنها طواعية بانتقاله إلى الساحة ، دوراً أكبر بكثير من الدور الذي كان يمكن أن يكون عليه لو ظل مستمسكاً بالسلطة مصراً على ممارستهما في وجه القبح الاجتماعي الذي جاء إلى سدة الحكم ليخلص تابعيه ومريديه وجماهيره منه ، هذا الدور تستحيل ممارسته دون غرور عملاق يستند إلى إدراك قيمة التنازل النزول من المنصة إلى الساحة وإلى جلال الدور الذي نزل من أجله. هذا الغرور لابد أن يكون في مواجهة من نزل من أجلهم لأنهم لأبد أن يرفوا كل ذلك ويقدروه ويثمنوه وإلاّ ما استحقوه. وفى الوقت ذاته، فإن القائد المبدع لكي يخاطب جماهيره بلغة يفهمونها وتبسط لهم أفكاره وقيمه التي يريد أن يوصلها لهم أن يعمد إلى تواضع جم وإنكار ذات مبالغ فيه حتى لا يُنفر نفر منهم بعيداً عن تلاحم الجميع لتحقيقي أفكار القائد المبدع وأحلامه.. تواضع في اللغة التي يطرح بها !كاره وتواضع في الطريقة التي يقدم بها تلك الأفكار وإنكار ذات في توضيح استقرائه مستقبل وحساسيته المتفردة لمشكلات شعبه .

        ولما كانت سمتي الغرور والتواضع لا يمكن أن يقوما في الساحة التي اختارها القائد مطلقاً إلا بمعزل عن بعضهما وفي مواقف متباعدة في المكان والزمان.. فإنه يصبح لا سبيل أمام القائد الذكي إلا أن يصيغ منهما " توليفة مختلفة جديدة ".. تحمل كلا النقيضين معاً دون تشاحن أو صراع. هذه التوليفة التي صاغها اختياراً ونجح في تقديمها عبر إبداعه ذلك القائد المبدع الفذ هي ما أطلقنا عليها " الغرور المتواضع أو المتواضع المغرور".. ويمكن أن يتبدى ذلك في أمثلة عديدة من قصص الأديب معمر القذافي، مثل قصة " أفطروا لرؤيته " وقصة " وانتهت الجمعة دون دعاء وغيرها.

 

4- الاستعراض الثقافي لخدمة الأفكار :

     لسنا بحاجة إلى أن نشير إلى وجود مسلمة فلسفلية تقول بأن التاريخ الثقافي للمبدع القائد، وقراءاته في التراث يكون لها دوراً هامشياً في خطابه على المنصة.. حيثما لا مجال لاستعراض ثقافته وقراءاته ولا سبيل لاستخدامها في خدمة الأفكار التي يضمنها خطابه السياسي ، ربما بسبب عامل الوقت القليل نسبياً الذي يستغرقه الخطاب على المنصة وربما بسبب أترصد قوى خارجية للخطاب وهذه القوى لا لتملك ما يمكنها من فهم الموروث الثقافي الخاص ببيئة القائد المبدع وحدها.. وربما حتى هروباً من الاتهام بالاستعراض الثقافي من أولئك المترصدين على نواصي العداء وما أكثرهم في حالة القائد السابق لتاريخ عصره ومجتمعه .

 

أما عندما ينتقل القائد المبدع إلى الساحة تاركاً المنصة ويقرر أن يكتب أفكاره إبداعاً في صورة قصة أو رواية مثلاً فإنه يجدعندئذ وحينئذ مجالاً أرحب لاستعراض التاريخ الثقافي والاجتماعي والديني لهذه الأفكار ، ومساحة أكثر رحابة لتفصيل المنابع- سواء بشكل مباشر أو غير مباشر- التي استمد أفكاره ومعتنقاتة منها، وفرصة رائعة للمقارنة بين أكثر من مصدر من مصادر أفكاره ونقد بعضها وترجيح البعض الآخر.. كل ذلك توطئة للوصول إلى الفكرة الأخيرة- أو الصورة الأخيرة للفكرة- التي يريد تقديمها إلى جماهيره. وهذا بالطبع يصب في صالح الإبداع الذي يمنح هذه المساحة ويكرسها لصالح العمل الأدبي الإبداعي بذات القدر الذي يصب فيه في صالح قدرة المبدع على استغلال تلك المساحة لخدمة أفكاره دون إفراط أو تفريط.. وهكذا فعل القائد المبدع معمر القذافي في إبداعه القصصي . والأمثلة عديدة في قصة " ملعونة عائلة يعقوب، ومباركة أيتها القافلة " وقصة " وانتهت الجمعة دون دعاء " وضميرها.

 

5- اتساع فترة حضانة الأفكار :

     ليست لدى القائد في الأغلب الفرصة فوق منصته- مهما بدا عكس ذلك- لأن ترك أفكاره وقراراته تختمر لفترات طويلة قبل أن ينقلها إلى جماهير شعبه المتعطشة لردود فعله على الأحداث المتلاحقة التي تباغتها صباحاً فتستغيث به كي يقوم فينفث عن مشاعرها تجاه الأحداث وصانعيها. فالقائد غير المبدع يقرأ تقارير المشكلات التي تعانيها جماهيره أو يواجهها وطنه، فيهب بمسئولية القائد إلى لقاء شعبه من فوق المنصة لتقديم أفكاره التي يراها حلولاً لتلك المشكلات أو ينفس لهم عن مهانة تعرضوا لها من قريب أو بعيد مدفوعا بإحساسه بحاجة شعبه الآنية لهذه الأفكار أو هذا التنفيس، وربما لتلك الأسباب وغيرها قد يقدم أفكاره أو قراراته قبل أن يمحصها ويعيد النظر فيها، تاركا للتجربة والزمن الفرصة لإثبات مدى ملاءمة تلك الحلول لتلك المشكلات ليعود بعد حين ويراجعها ويعدلها بقرارات جديدة وأفكار معدلة تتلافى سلبيات الأولى حسبما تسفر عنه التجربة العملية لتلك الأفكار على أرض الواقع          ( والأمثلة في الواقع الربى والعالمي على الأفكار المتعجلة للقائد لحل مشكلات جماهيره، ثم عودته إليها بعد حين لتعديلها وفق ما أسفر عنه المحك التطبيقي لها أكثر من أن تحصى ).

     أما عندما ينتقل القائد إلى موقع الإبداع كفرد بين جماهيره، مجتازا المسافة بين المنصة والساحة.. فإنه لا يجد نفسه مدفوعا ولأ مضطرا إلى طرح أفكاره قبل تقليبها على كل الوجوه وتمحيصها على كل الجوانب، فيكتب العمل الأدبي الذي يتضمن أفكاره ثم يعدل فيه في الغد ويغير فيه بعد الغد إلى أن ينتهي إلى الصيغة شبه النهائية التي تتلافى السلبيات المتوقعة. عندها يعمد إلى كتابة صياغته الأخيرة ليقدمها إلى رفقاء الساحة في صورة إبداع متمكن يصمد لعشرات السنوات دون حاجة إلى إعادة النظر .

     وهو في هذه الحال الأخيرة لا يكون محكوما بالعبارة الجزلة التي تلائم خطاب المنصة ولا بالمعنى المقتضب الذي يوافق زمن الخطاب السياسي، وبالتالي فإنه يلجأ في إبداعه إلى اللغة السردية، ممطوطة العبارة مستريحة المعنى وافرة الأمثلة، كما يلجأ كثيرا إلى توضيح المعنى ، ومعنى المعنى، دون قيد زمني يضطره إلى الاختزال ، وبشكل لغوى متنوع يسمح للجميع مهما اختلفت مستوياتهم الثقافية بتلقي أفكاره بأعلى قدر من الفهم خطاب المنصة الذي نرى أنه يفرض نوعاً من التعالي اللغوي ليخاطب في الصفوف التي تحضر لقائه والسواد الذي يترقب عبر وسائل الإعلام خطابه.

      والأمثلة في هذا البعد النفسي عديدة ووافرة في قصص " الأرض الأرض " و" القرية القرية " و " المدينة " و غيرها.

      وهكذا نرى بعد هذا الاستعراض أن تلك السمات النفسية " الخاصة جدا " التي تلبست الكاتب المبدع وتلبسها تصلح كسمات إنسانية لكل من يتصدى لدور خلاق كالذي يقوم به صاحب ذلك الإبداع الذي كنا بصدد تحليله.. وتصلح أيضا كسمات إبداعية تنطبق على العمل الإبداعي ذاته بدلاً من المبدع.. فهي سمات يمكن وصفها بأنها سمات " ثنائية الاتجاه " تشكل  ديالكتيك  رائع بين كل من الإبداع والمبدع ، تقر لنا بذلك التوحد المتطلب دوما في الإبداعات الإنسانية ، والذي يبدو أنه مفتقد إلى حد كبير فيما يطلع به علينا هذه الأيام الكتاب والأدباًء " العاديون ".


 

 

جائزة القذافي الدولية لحقوق الإنسان - جميع الحقوق محفوظة   © 2005

جائزة القذافي الدولية لحقوق الإنسان