السخرية
في أدب معمر القذافي
الدكتور عبدالله أبو هيف
سورية
******
يتناول البحث السخرية في أدب معمر القدافي، ولاسيما
كتابيه «القرية
القرية»([i])
و«تحيا
دولة الحقراء»([ii])،
ويضع توصيفاً للكتابين، ويحدد مفهوم السخرية بعامة،
واستعمالها في الكتابين بخاصة، ويحلل أساليبها
ودلالاتها في مجموعة ملاحظات.
1- التوصيف:
ينتمي كتاب «القرية القرية» إلى فنّ القصة، سرداً
يعتمل بخطابه من خلال تحفيز جمالي أو تأليفي يختزن
الخبرة البشرية في قصة فنية دالّة على فكرة نبذ
المدنية التي تقتل الروح كما في قصص «المدينة» و«القرية.. القرية»
و«الأرض..
الأرض»
و«انتحار
رائد الفضاء».
بينما تنهض القصة على أسلوبية التناص العميق مع قصة
يوسف سليل الجماعة المجرمة إزاء أقرب جيرانها في
المعطى السياسي الراهن والمستقبلي إحالة إلى عدوانية
الصهاينة وإدانتها في قصة «ملعونة
عائلة يعقوب ومباركة أيتها القافلة». وتلوذ قصة «عشبة
الخلعة والشجرة المباركة»
بالتحفيز التأليفي الذي يوائم بين العناصر الواقعية
وتخييلها. أما قصتا «الفرار إلى جهنم» و«الموت» فيرتقي
فيهما السرد إلى مصاف القصة الفنية حيث الرؤى
الإنسانية والوجودية الشاملة. ويندرج السرد في النصوص
الأربعة الأخيرة «افطروا
لرؤيته»
و«دعاء
الجمعة الآخرة»
و«انتهت
الجمعة دون دعاء» و«المسحراتي ظهراً»
في مفهوم المقال ـ القصصي طلباً لتأثير سريع ومباشر
للمقولات الفكرية العاضدة لوجهة النظر أو المنظور
السردي.
ويحتوي كتاب «تحيا
دولة الحقراء»
على أربع مقالات هي: «تحيا دولة الحقراء»
و«الموت
للعاجزين.. حتى الثورة» و«هل حقاً ماتت الشيوعية؟»
و«دعوة
ملحة لتشكيل حزب مرة أخرى»، وقد صدّرها بعبارات منتزعة، قولاً أو معنى، من
هذه المقالات، وهي:
- فالموت للعاجزين.. حتى الثورة.
- علينا أن ننتظر انتصارنا حتى لو تأخر 360 عاماً!.
- الشيوعية لم تولد حتى يقال: إنها ماتت!
- القطة تأكل أولادها.
- الشعب في النظرية الثورية تعبير برجعاجي غامض.
تنطلق المقالة الأولى من التناص الديني لمعنى
«الحقراء»، فالعبد المؤمن ذليل أم ربه، ولكنه يمدّ
الدلالة إلى أنّ الحقراء هم الفقراء لأسيادهم، وما
مصدر التحقير إلا الأغنياء والحكام، لتصبح معها الدعوة
إلى المقاومة واجبة لنفي الحقارة والتحقير.
يبدأ المقالة بتمني انتصار الحقراء حلاوة وعظمة
وجمالاً «أن
يضحي الحلم واقعاً أن تكون للحقراء دولة!» (الصفحة 7)، ثم سرعان ما يتوجه
بالخطاب إليهم من «الأسطرة» الدينية إلى تحقق الوجود
الكريم: «ما
أجمل ذلك اليوم.. يوم قيامة الحقراء.. يوم ينفخ في صور
البعث فإذا هم أحياء يتعانقون ويضحكون.. يضحكون حتى
البكاء.. بكاء الفرحة.. تسيل الدموع من مآقيهم
المجروحة المتورمة من العذاب»
(الصفحة 7).
ويشرع بعد ذلك في مفارقات الحقارة بمستوياتها
ودلالاتها إثارة لدواعي التغيير: «إذا
ورثتم أيها الحقراء فلن تكون كهذه لأنها الآن أرض
المترفين والمتحكمين والدجالين والمنافقين والكذابين،
أرض الفساد التي لا تليق إلا بالمفسدين.. وهذا هو
السرّ الحقيقي لاحتقاركم فيها، لأنكم لستم منها فأنتم
لستم أغنياء ولهذا احتقروكم.. وأنتم لستم حكاماً،
ولهذا احتقروكم.. وأنتم لستم دجالين، ولهذا احتقروكم..
وأنتم لستم منافقين كذابين، لهذا احتقروكم. إن الأرض
الفاسدة لا تقام فوقها إلا دولة الفاسدين»
(الصفحة 13).
وهذا هو مسوغ نبذ الدلالات الباطلة والمغلوطة على سبيل
قلب المفاهيم والتبدل الواقعي: «فالحقراء
الحقيقيون هم أولئك الفاعلون للحقارة الحاملون لحجرها
وسهامها.. وأثوابها.. ووزرها. لن تكونوا مثلهم إطلاقاً
أيها الحقراء.. لن تحتقروا غيركم بكل تأكيد، لأن
تجربتكم مريرة وشاقة ومؤلمة وغنية بالدروس والعظة..
فلن تسقطوا مأساتكم على أحد.. لن تعذبوا ضميركم.. لن
تقهروا غيركم، لأنكم أنتم ضحية قهر الآخرين لكم.. لن
تتلذذوا بممارسة تحقير الآخرين لأنكم تجرعتم علقم
التحقير الذي مورس ضدكم»
(الصفحة 15).
وتتناوب المقالة الثانية لغة مخاطبة العاجزين أو
الخطاب عنهم إمعاناً في تحليل ظاهرة العجز ونشداناً
لخلاص مرتجى، منطلقة من النقمة على العاجزين عن الوفاء
بمتطلبات الثورة، فهي خطاب موجه إلى هذه الفئة
المتراخية الخاملة في استتباب مصائر هذه الثورة
المغدورة أو المهملة أو المرمية في الغياب: «أيها
العاجزون المساكين ما أبعدكم عن الحقيقة المرة.!
يحسدونكم أيها العاجزون.. لأنكم تسلكون أبسط الطرق في
الحياة ولا تكلفون أنفسكم أية مشقة.. ولستم في حاجة
إلى تأويل أي شيء من أموركم.. ولا إلى تفسيره.. كل شيء
واضح في حياتكم أيها العاجزون.. لا غموض.. ولا إبهام
تتجنبون مسؤولية التفكير وما يترتب عليه من تدبير..
ولا تحيدون عن طريقتكم المعتادة وتصرفاتكم المحدودة..
وتتنازلون بسهولة عن أي مهمة فيها صعوبة.. ترحمون
أجسادكم وتريحون ضمائركم.. وتخدعون أنفسكم بأساليب
مريحة للغاية»
(الصفحة 21).
ثم يمعن في استفزاز هؤلاء المتقاعدين على أرض العجز في
أن حياتهم رهنت بهذه الحال المميتة:
«فحياتكم
هادئة رتيبة اتكالية حتى النهاية، وتسلكون أيسر السبل
حتى ولو أدت إلى الهلاك.. ودنياكم التي يخيم عليها
العجز كئيبة رتيبة المعاش ولكنكم قادرون برغم عدم
قدرتكم على تكييفها بما يتفق وعجزكم عن تغييرها..
وتسقطون الدروس الصعبة من الماضي.. وتأخذون السهل
السطحي الذي لا يحتاج إلى جهد.. وتتبنون خرافات
الماضي، وتتعمدون إبعاد غيرها ما دامت لا تنسجم مع
وتيرة حياتكم السهلة الاتكالية حتى وإن كانت حقائق..
فأنتم أيها العاجزون لا تبحثون عن الحقيقة. هذا ليس
همكم بل تلجؤون إلى ما يناسب حالة العجز فحسب» (الصفحة 22-23).
ويياسر إلى تقرير أن «دنيا العاجزين لا معنى لها ولا فاعلية»
(الصفحة 23) و«قانونها
التنصل والإسقاط و الرضوخ لكلّ ألوان الاستلاب»
(الصفحة 26). علماً أن النقمة تشتد على العاجزين مما
لابد معه من إرادة الخلاص بالثورة ومتطلباتها الرئيسة
من الثوريين وفاعليتهم على التغيير:
«الثورة:
عندما يصل توغل شعور العجز إلى كل جزء من حياة
العاجزين.. ويفقد العاجزون الشعور بالعجز وبكل ما
يترتب عليه من انحطاط.. وعندما يصبح التبخيس والهوان
والنذالة أموراً غير مستفزة تكون حياة العاجزين قد
وصلت درجة الصفر التي هي مستوى الاستقرار في التفاهة
والهامشية، عندها يبدأ العد التصاعدي في تراكم
الدونية.. ويبدأ الشعور بتراكمها.. ولم يعد أمام
العاجزين للثورة على أنفسهم إلا إتاحة فرص المقارنة مع
الغير النقيض» (الصفحة 27).
وتندغم المقالة الثالثة في تدعيم عمليات الوعي
بالتاريخ من خلال تلوينات فكرية وسياسية وتاريخية تحت
وطأة قوانين السوق والمتغيرات الدولية الأخرى، فتقارب
مفهوم المراجعة النظرية لأفكار النظرية العالمية
الثالثة إثر المتغيرات الدولية العاصفة التي آلت إلى
زوال الاتحاد السوفييتي وانهيار المنظومة الاشتراكية
والتبدلات العنيفة في النظريتين الاشتراكية
والرأسمالية، فيصف لحظة إنزال العلم الأحمر وارتفاع
الأعلام الروسية والرايات الدينية، ويعدد الأثمان
الباهظة لارتفاع هذا العلم الذي قضى من أجله الكثرة
الكثيرة من المدافعينة عنه خلال الأوضاع المأساوية
التي بدت مفاجئة للكثيرين، وهذا ما جعله يؤشر إلى
البزوغ الحق لعصر الجماهير:
«هل
بعد انهيار الكرملين ستنهار في العالم كل مؤثراته من
دولة اليهود إلى الحزب إلى السجن السياسي وأجهزة القمع
ومصادرة الأملاك وتأميمها والحراسة عليها. والسي أي
ايه أو نظرية الأمن القومي والأمن الخارجي..
الخ.
لاشك أبداً أن العالم القديم ينهار من أمريكا إلى
الاتحاد السوفييتي. وأن نظاماً جديداً سيظهر نتيجة
حتمية لهذه التفاعلات وليس بتصميم مصمم أو بقرار
سياسي. أو بالتهديد بالقوة.. سينهار حتماً كل ما هو
رسمي ويحل محله كل ما هو شعبي وهل ماتت الشيوعية
حقاً..؟!
أقول: إن عصر الجماهير بدأ يفرض نفسه وهو يزحف
حثيثاً يلهب المشاعر، ويبهر الأبصار، وسيتحقق كل ما
قيل في مقدمة هذا المقال ولكن الشيوعية لا نقول ماتت
لأنها لم تولد بعد!! وعلينا أن نتذكر ما قاله هتلر
لأحد حلفائه: علينا أن ننتظر انتصارنا حتى ولو تأخر
360 عاماً»
(الصفحة 38-39).
ويقارن في متتالية نصية الفروق بين الثورات ولاسيما
تقليد الثورة البلشفية للثورة الفرنسية لتشخص على أرض
الواقع المشكلات التي غطتها الشيوعية من الدين إلى
القومية إلى مظاهر الحياة الأخرى ومعانيها.
وتنسرب المقالة الرابعة في إعادة القول حول النظرية
الثالثة التي أطلقها «الكتاب
الأخضر»
من منظور أن الحزب هو «حكم جزء للكل» مما يستدعي تشكيل
حزب للقضاء على تحكم الأقلية في الشعب، «فالشعب في
النظرية الثورية تعبير برجعاجي غامض مبهم لا يقل
إبهاماً عن عبارة «الشعب سيد الجميع»، فمن هو الجميع
الذي يكون الشعب سيده؟! والصحيح الشعب هو السيد»
(الصفحة 50-51).
وتقوم المقالة الخامسة على الجدل الراهن والمستمر حول
معنى الحزب وعلائقه الثورية والجماهيرية والوطنية
والديمقراطية، ويشرح معنى الشعب ودولة الجماهير:
«إنها
عملية جريئة أخرى، وقفزة نوعية، وتحول ثوري جديد لخلق
دولة الجماهير، والجماهير فقط صاحبة المصلحة في الثورة
والتي أكلت الطحالب حصتها ومص دراكولا دمها»
(الصفحة 54).
ويفضي تحليله المتحمس على الرغم من وطأة المتغيرات
الدولية على النظرية والممارسة إلى بقاء التطلعات
المنشودة متوهجة:
«كل
ذلك ينزع الرهبة من قلوبنا، ويعزز حريتنا، ويؤكد
انفرادنا بالسلطة فوق أرضنا.. إذا وجدتم إلهاً فاقتلوه
واصلبوه.. وإذا وجدتم نبياً فارجموه واقتلوه.. إنهم
دجالون وكذابون.. لقد ماتت الإلهة وماتت الرسل.. فلا
تصدقوا إن قال لكم أحد: إنني إله أو نبي إنه مدع
ودجال.. إنه مسيلمة أو سجاح، الأرض ملك للجميع.. البيت
لساكنه.. السيارة لمن يقودها.. الذي ينتج يستهلك
إنتاجه.. البيت يخدمه أهله.. الطفل تربيه أمه..
الجامعة لطلابها.. المدرسة لطلابها.. السلطة والثروة
والسلاح للجميع.. إليكم جميعاً يوجه النداء ليبدأ
الفرز لتصطف الجماهير على اليسار.. وليقف خصومها على
اليمين لتفصل بيننا المتاريس» (الصفحة 57).
2- مفهوم السخرية:
يفيد مصطلح السخرية في النقد معاني الهجاء المستور أو
التوبيخ أو الازدراء أو التهكم أو الدعابة الماكرة أو
المرارة (الدعابية) أو التأسي أو الفكاهة السوداء، فقد
انطلق المصطلح في التاريخ الأدبي من التظاهر بالجهل
وإخفاء الحكمة والتلاعب بالكلام باعثاً على الضحك أو
البكاء، بوصفه طريقة في الكلام يعبّر بها الشخص عن عكس
ما يقصده بالفعل، أو عن تحسر الشخصي على نفسه..الخ
(ص262-263)([iii]).
وانتظم المصطلح في «نوع من الهزء، قوامه الامتناع عن
إسباغ المعنى الواقعي أو المعنى كله على الكلمات
والإيحاء عن طريق الأسلوب، وإلقاء الكلام بعكس ما
يقال، وتتركز السخرية أصلاً على طريقة في طرح الأسئلة
مع التظاهر بالجهل وقول شيء في معرض شيء آخر. وحدد
أرسطو السخرية بالدلالة على الأشياء بأسماء أضدادها،
فبرزت السخرية أسلوباً في الإنانة عن آراء ومواقف خاصة
تتناول الناس أو قضايا الحياةسماء
» (الصفحة 138)([iv]).
ويخفف الباحثون من وطأة السخرية، «حيث يُسري بها عن النفس ويجلب بها
السرور، وتكون مادتها من نقاط الضعف في الأصدقاء، ومن
الصفات الشائعة عنهم، والبارزة فيهم، أو في مسقط رأسهم
أو جماعتهم، وهي لا تعني إهانة أو إيلاماً، وقد تكون
بسيطة جداً فلا يكون وراءها دافع ملح، ولا باعث شديد،
ولا تجري وراء هدف مبلور يتعلق بالشخصية نفسها، وإن
كانت لا تخلو من تأثير معين بهذه المادة التي أسهمت في
خلقها، وتعطي إلى جانب الرغبة في التسلية إيماء
بالمنطق العام الذي يسود الفكر أو النموذج المثالي
الذي يتطلع إليه الإنسان جاداً أو هازلاً أو مازحاً»
(الصفحة 22)([v]).
وينبغي أن يحتاط المعنيون بالمصطلح إلى أن السخرية
أسلوب بيان وبلاغة يجعل الجد أو الهزل أو المزاح
سبيلاً للدلالات غير ظاهرة أو معلنة، فلا تكون السخرية
لتزجية التسلية المجردة أو التلاعب اللغوي المجرد، إذ
لا يقال المعنى المخالف تماماً لما يقوله الشخص
جزافاً، ثم صاغ باحثون آخرون فهماً لمصطلح السخرية من
معاينته بالعربية مقارنة بدلالاته في لغات حية
كالإنجليزية والفرنسية، ضمن «مترادفاتها في العربية
التهكم والسخرية واللذع والهزء، ومن معانيها الهزل
والمزاح والفكاهة والهجاء والضحك، وربما اقترن الضحك
فيها كمصطلح توأم يعبر عنها وتعبر عنه، حتى اتخذ
عنواناً لكثير من المؤلفات العربية والعالمية. ومعناها
النيل من الآخرين لتحقيق أهداف متعددة منها الإساءة
والتشفي، وإظهار التفوق والتخلص من ظروف قاهرة
والاستخفاف والاستهانة وعدم الاكتراث، وهي بالتالي
وسيلة تحرر من القسر والألم، وسيلة تعريض، كما هي
أسلوب لدفع الأذى وأسلوب لتفريغ الطاقة، وتتعدد
أدواتها بتعدد المواقف والأحوال والأسباب، فهناك مضحك
الأشكال ومضحك الحركات ومضحك الظروف ومضحك الكلمات
ومضحك الطباع» (فاعور([vi])الصفحة
14).
وهذا كلّه يجعل السخرية أسلوبية ذات مناصي متعددة وسبل
بيان بلاغي وإبلاغي مختلفة تأخذ أشكالاً كثيرة من
الهزء والتهكم واللذع والهجاء والهزل والمرارة (الدعابية)
والدعابة باستخدام القلب اللفظي والدلالي مجازاً
بسيطاً أو استعارة عميقة أو تركيباً معقداً عامراً
بالإحالات الكلامية وسواها.
3- استعمال السخرية في «القرية القرية»:
تظهر السخرية خفية متموجة مع الحركة السردية وأنساق
التنضيد السردي في القصص الفنية، ثم يباشرها في سرد
المقال القصصي، ونختار من القصص الفنية «عشبة الخلعة
والشجرة الملعونة» مثالاً للسرد البسيط الذي يعتمد على
النجوى الصريحة وتوارد الحوافز الذاتية (الوحدات
القصصية الأصغر) عن نص غائب، وتميل فيها السخرية إلى
أمداء الإحالات الكلامية وترجيع الحوافز المفعم بذاتية
متوجعة من الحال المؤسي للتخلف وخذلانه المبين، وتقوم
فيها السخرية على الهزء والدعابية والهزل الجاد من
الظروف والحركات الخاصة التي تتداخل مع العالم بيسر،
وتنتظم السخرية في اللغة وثنائياتها المتعارضة أو
المقلوبة بالجناس اللفظي أو المعنوي أو السجع أو
اختراق المألوف أو التكرار المأزوم.
تبدأ القصة بالجناس المعنوي الصارخ من عشبة الخلعة إلى
وصف الجماعة الإنسانية بالمخلوعين والمخلوعات (ص57).
ويمضي السرد الساخر بالهزل الجار من توافر أعشاب أخرى
شافية لكلّ مرض، ويمدّ مفهوم المرض ساخراً هازئاً إلى
عمليات إنتاج المجتمع برمتها: «أما
بقية الأمراض فالدواء متوفر لها أيضاً في دكان الحاج
حسن ولكن ليس بعشبة الخلعة.. بل بأعشاب أخرى.. ثمة
عشبة للعقم بكل أنواعه حسب تأكيده بنفسه.. العقم
الإنجابي.. والعقم الإنتاجي.. وربما الفكري أيضاً
وكذلك دواء الدوخة»
(الصفحة 57).
وتصير السخرية بالقلب اللفظي مفارقة معنوية عن أدواء
الحياة العربية برمتها التي ترتمي في وهدات المرض الذي
يستعصي على العلاج:
«وحتى
الدفاع يبدو أنه ليس من مسؤوليتنا برغم أننا كذبنا على
أنفسنا وقلنا: الدفاع عن الوطن مسؤولية كل مواطن
ومواطنة.. فنحن نعمل جاهدين على التنصل من هذا الواجب
المقدس، نحن دعاة سلام ومحبة.. وشعارنا (السلام عليكم
ورحمة الله و بركاته) فعلى الإسرائيليين منا السلام
والرحمة والبركة.. وكذلك الأميركان.. وحلف شمال
الأطلسي وحلف داود. وعليهم أن يردوا علينا بنفس التحية
أو بأحسن منها فننتظر كل يوم من الإسرائيليين وحلفائهم
أن يقولوا: السلام على الرابطة وتاجوراء ورأس لانوف
والقدس وبغداد. وفعلاً نحن ما حاجتنا بمصنع الأدوية في
الرابطة أو رأس لانوف ما دام الحاج حسن جمع لنا كل
الأعشاب التي تشفي من كل الأمراض حتى مرض العقل والقلب
والنظر.. والكرومة أو الكرامة فإن المقابلة كانت قد
شوشت عندما كان الحاج حسن يشرح مفعول عشبة مهمة..
وسمعت أنه قال: ضد داء الكرومة أو الكرامة وربما حتى
داء الشيخوخة لأنه حسب سمعي قال: عشبة ضد الكبر أو
الكبرياء أو شيء من هذا عموماً له علاقة بالشيخوخة على
ما يبدو. نحن إذن سعداء.. لقد تخلصنا من كل شيء..»
(الصفحة 59).
ولو أمعنا النظر في هذا النص السردي المقتطع من نجوى
السارد الساخر من ضغوط الركود والنكسات والهزائم
العربية لرأينا استغراق المنظور السردي في قلب
الدلالات: الدفاع والمسؤولية، الدعوة إلى السلام مع
العدو الإسرائيلي، الحل ومصنع الأدوية، صنع الدواء أو
صنع الأنوف، مرض الجسد ومرض العقل والقلب والنظر، داء
الكرومة أو الكرامة، الشيخوخة أو الكبر أو الكبرياء،
وهم السعادة والخلاص..الخ.
ويختتم السارد نصه السردي بعدمية توغل في العبث أو
اللامعقول تزجية للسخرية القائمة على قلب الدلالات
أيضاً، وكأنه خروج على المألوف على أن الخلاص قرين
التخلص والحل مجاله التدمير والتطلع هو التوهم
بامتياز:
«استمروا
أيها الأحرار إناء الليل وأطراف النهار في قطع الأشجار
ومحو الاخضرار من على وجه الأرض الأبية، هشموا
بسواعدكم المفتولة غابات الجبل الأخضر وأشجار النخيل
من مزارعكم وابنوا على أنقاضها متجراً أو محل تزيين أو
حلواني أو مقطع جير. ما قيمة النخلة ما دام العالم
يصنع لنا الحلوى!!؟ نحن نفضل تمراً بلا شوك..
وبرتقالاً بلا قشور.. وزيتوناً بلا شجرة.. اقطعوا
الأشجار وخاصة الشجرة الملعونة الزيتونة والنخلة. هكذا
سنقف على قدم المساواة مع الأمم القوية المتجبرة
وسنكون في مأمن من الصواريخ ذات الرؤوس النووية..
ولهذا سنقهر التخلف الذي طال مداه وسنصنع التقدم..»
(الصفحة 60-61).
واختار نص «أفطروا لرؤيته» مثالاً للمقال القصصي
الساخر الذي يربط بين فريضتي الصوم والحج والسخرية من
أوضاع العرب المؤسية إثر حرب الخليج الثانية حين يسّيد
الأمريكان وقادتهم على أنماط العيش العربي ومعاناته
الساخطة على الانقسام الإسلامي والعربي، فالمقال
القصصي إدانة شاملة للتخرب الإسلامي الذي يشرذم حال
العرب المعاصرين في التنابذ والفرقة والاختلاف العنفي
الصارخ خلال ربع القرن الأخير، فيتماهى قرار الجنرال
شوارزكوف عن تحديد يوم عيد الفطر مع استتباب استتباع
العرب للغرب الأوروبي والأمريكي، كما في هذا النص
المفعم بالسخرية من الظروف وتحكمياتها المسبقة
واللاحقة على الأوضاع العربية:
«لكن
الأمر حسم هذا العام فقط و قد حسمه الجنرال نور
اشوارزكوف نفسه جزاه الله خيراً، فقد قرر في وقت مسبق،
ومنذ الأسبوع الأول من رمضان أن يوم عيد الفطر هو يوم
الاثنين الموافق 15/ 4/ 1991م لميلاد عيسى عليه
السلام، وبالتالي حدد أيام الحج بصورة قاطعة لا لبس
فيها ووفقاً للتاريخ الإفرنجي بغض النظر ـ حسب قرار
الجنرال اشوارزكوف ـ عن رؤيته من عدمها «أقصد رؤية
الهلال وليس الجنرال المذكور» وسواء أكان شعبان ناقصاً
أم كاملاً.. وسواء أكان رمضان 28 يوماً أم ثلاثين
يوماً أم حتى 31 المسألة غير قابلة للنقاش ولا خاضعة
لرؤية الهلال أو عدم رؤيته.. سواء أكانت القضية قضية
سنّة أم فرض.. قال الله وقال النبي قرار الجنرال
اشوارزكوف غير قابل للمراجعة»
(الصفحة 95).
وتتبدى السخرية من خلال قلب الدلالات من إطلاق قرار
الأجنبي في شأن ديني عربي وإسلامي باسم حفظ أمن
البلاد بينما هو موجه لأمن القوات الأمريكية بالدرجة
الأولى، ويعاود السارد في نجواه الذاتية الدالة على
مكابدة قومية لا تخفى في مثل هذا الجدل الساخر الممعن
في المبالغة واختراق المألوف، فقد كان السرد مؤلفاً من
رسالة الجنرال اشوارزكوف المقيم في مكة المحمية براً
وجواً وبحراً، وتأتلف في السخرية اللوازم اللفظية مثل
تكرار ألفاظ أو تراكيب بعينها أو تتالي تراكيب
متجانسة: «ويأمر الجنرال اشوارزكوف حجاج
بيت الله الحرام بأنه من المحرمات أيضاً علاوة على
الرفث والفسوق والجدال هناك قائمة إضافية من المحرمات
يأمر بها هذه المرة اشوارزكوف وليس الله وهي تحريم جلب
الصور بما فيها الصور الشخصية عدا الصورة الملصقة في
جواز السفر، وكذلك الكتب بما فيها كتب القرآن والحديث
والفقه، كذلك ممنوع الدعاء إلا الذي قرره الجنرال
اشوارزكوف بنفسه وتجدونه لدى كل مطوف بلا مناقشة لأن
أي حرية في التعبير وعدم تحديد الدعاء قد يؤدي إلى
الهتاف بعبارات معادية للقوات الأمريكية أو ربما حتى
للجنرال نفسه أو لرئيسه لا سامح الله.. وهذا يقود إلى
مظاهرات أو هيجان قد يؤدي إلى الإخلال بالأمن المسؤولة
عنه القوات الأمريكية حيث مكة جزء لا يتجزأ من المملكة
العربية السعودية والمسؤول عن حمايتها اشوارزكوف. ما
هو الخطأ في تمديد شهر رمضان 32 يوماً والفطر يوم 3 من
شوال أو في قبول الإجراءات المتعلقة بالحج هذا العام
وفقاً للأوامر.. فمن هو المخطئ..؟ لا شك أن المخطئ هو
غير الملتزم والمارق من الصف المنتظم، العاصي للأوامر»
(الصفحة 98).
يغلب على طوابع السخرية في هذه النصوص السردية مجاوزة
المضحك والهازل إلى قلب الدلالات بأساليب شتى نحو
دلالة أعمق وأشمل هي إدانة التكبر والاستعلاء بتعضيد
مناهضة الاستتباع القاهر.
4- استعمال السخرية في «تحيا دولة الحقراء»:
تلتفت السخرية في هذا الكتاب أيضاً عن متعارف الأشكال
والهيئات عيوباً أو الإضحاك منها هزلاً لذاته إلى
دعابية تنضح بالمرارة والقسوة إلحاحاً على دلالة
السخرية وإفصاحاً عن مكنون الموقف والرأي مما يجري
حساً مأساوياً يتفجر في متواليات قلب الدلالات
مستفيداً من مستويات السخرية التالية:
أ- تلاوين المفارقات اللفظية والمعنوية واستخدام
معطيات الطبيعة في الوصف، فتتكرر أوصاف وتنويعات
أس لفظ الحقارة أو التحقير من دولة الحقر إلى شمس
الحقراء إلى قيامتهم توكيداً للدلالة المركزية: «الأجساد الملونة بالعذاب»
(الصفحة 9) إلى هتاف الدلالة المتألقة في جواب لا يهدأ
عن المكابدة بفعل التباين الطبقي والاجتماعي
المشمول بالإحالات الكلامية والتناص الأسطوري والديني
والأنثروبولوجي كما في هذا النص الذي يقوم على
التناغم اللفظي والتقطيع الدلالي والترجيع المعنوي
سخرية من دلالة الحقارة أو التحقير:
«لكن
في يوم البعث المشهود لجماهير الحقراء وقيام دولتهم
الحلم تسخن العيون الجامدة.. ويجرى سريعاً في عروقها
الدم الذي كان ممنوعاً فتسخن وتسخن وإذا بالورم هو
كتلة يابسة من ماء العيون.. تلك العيون الشاردة في ذلك
اليوم تنهمر ببكاء الفرح كمطر الشتاء. اغسلوا وجوهكم
الحالكة المرهقة بالماء الغالي بماء العيون.. بالدموع
الربانية المقدسة. ما أطهر هذا الماء!! ما أقدس هذا
السائل!! ما أسخنه!! ما أحرّه! اركضوا أيها الحقراء
إذا قامت دولتكم، اقفزوا... العبوا بالحبال... اقطفوا
الورد.. واسبحوا في الهواء الطلق، طيروا بأجنحة الفرح،
استحموا بعرقكم الذي يتصبّب من أجسامكم من فرط فرحتكم
ونشاطكم غير المعهود.. اكتشفوا رشاقة أجسامكم.. انظروا
لبعضكم بعضاً، كم هي جميلة..!» (الصفحة 8).
ب- أما الملمح الثاني في المبنى الساخر فهو المسرحة
وشيوع النزوع الدرامي في الخطاب المنفتح على ثراء
الدلالة وتنويعاتها في مستويات القول أو الخطاب
وتعدد زوايا وجهة النظر من النجوى الذاتية إلى
مناجاة الآخر، إلى مخاطبته إلى النجوى المتأملة إلى
تغير موقع الراوي ومنطوقه:
«لا
أريدكم أن تكونوا سلاطين أيها الحقراء، لأن ذلك يسيء
إليكم، ويصمكم بوصمة العملاء.. ولا أريد لكم أن تكونوا
أثرياء فإن ذلك يلحق بكم الضرر ويصيبكم بداء الأغنياء
الذي ليس له دواء.. ولا أريدكم أن تكونوا شيوخاً
وفقهاء لأن ذلك يصمكم بوصمة دجل الجهلاء.. أنتم لن
تتجبروا فلغيركم الخيلاء.. وأنتم لن تتكبروا فللشياطين
الكبرياء.. ليس لدولة الحقراء حدود فهي ليست كغيرها من
الدول.. فالحدود قيود.. وليس للحقراء قيود.. وللحدود
مشاكل وتهاريب ولا يليق بالحقراء مشاكسة الغير.. وعلى
الحدود حروب وهروب. والحقراء لا يحاربون ولا يهربون..
فلن يكون لكم خميس ولا تسديس فالمسدسات والغدارات
للقتلة والغدّارين والجند الفاتحين المعتدين..
والحقراء لا يعتدون.. إنهم مسالمون طيبون.. لا يحتاجون
إلى شرطة وحراس.. ولا إلى رواصد وأجراس، تلك أدوات
المرتابين.. ووسائل المتهيمنين.. فالحقراء لهم كوامن
رائعة ونفيسة بيد أنها حبيسة. فرغائبهم نعيمية فردوسية
إذا أتيح لها الانتشار لتضوّع الكون عطراً ومسكاً.. إن
نيّات الحقراء شفاء من كل داء..»
(الصفحة 11-12).
ج- وتبلغ السخرية مداها في المفارقة حين يتداخل قلب
الدلالات مع التفريد اللغوي على سبيل ابتعاث
المعنى من مخاض الخطاب المتلفع بمأثور التشكيل
اللغوي تعبيراً عن التشكيل الإنساني والاجتماعي
في الوقت نفسه:
«الحقارة
حجر قذفوكم به.. سهم رموكم به، وزر حملوكم إياه.. ثوب
ألبسكموه من يحمل هذه الأشياء.. من يحمل حجر الحقارة،
وسهم الحقارة، ووزر الحقارة، وثوب الحقارة.. الحامل
لها هو المثقل بالحقارة، أما أنتم فما ذنبكم إذا قذفكم
من يحمل الحقارة بحجر منها.. ورماكم من يحمل الحقارة
بسهم منها، وحملّكم من يحمل أوزار الحقارة بوزر منها..
وألبسكم من عليه أبواب الحقارة بثوب منها.. أنتم
أبرياء أنت مفعول به.. ومفعول فيه.. ومفعول عليه..
وأنتم مضاف إليه.. مكسورون ولا دخل لكم في الكسر..
المسؤول عن ذلك المضاف الذي حتّم كسركم لأنكم مضاف
إليه.. والمضاف إليه لابد من أن يكون مكسوراً ولو في
محل كسر.. وأنتم مجرورون.. لأنكم أيضاً مضاف إليه
والمضاف إليه لابد من أن يكون مجروراً لا جاراً..
فالمسؤول الجارّ وليس المجرور.. فأنتم من وقع عليه فعل
الفاعل.. والمسؤول الفاعل وليس المفعول به.. أنتم
فريسة لأفعال متعدية، رمى.. وألبس وأعطى وحمّل.. أنتم
ضحية التطاول والتعدي من قبل فاعلين بأفعال متعدية
تصلكم وتصل ما وراءكم» (الصفحة 14-15).
د- ولعل البراعة في استخدام اللوازم اللفظية توقيعاً
ساخراً في سياق الدلالات ظاهرة في استخدام لفظ «إحدى»
«واحد» امتداداً لعملية البحث عن حل للحال العربية
المزرية مما يجعل المقاومة وعداً بالحرية والكرامة
والاستقلال:
«كنتم
تبحثون عن حل عاجل لحالكم المزري.. وترون في التسليم
لمحتقريكم بلا أدنى تردد حلاًّ على أي حال.. وتبالغون
في ربط مصيركم بهم باعتباركم إحدى التوابع المكملة
لحياتهم.. وإحدى الصور المزينة لها.. وإحدى الرذائل
المترتبة على تصرفاتهم.. وأحد الذنوب الناجمة عن
سلوكهم.. وأحد الردفاء لأحمالهم وكنتم ترتضون التحقير
لأن مقاومته ليست من الأمور التي تسهل حياتكم معهم» (الصفحة 16-17).
هـ- ثمة ملمح رئيس في المبنى الساخر هو متوالية
الدلالات المقلوبة المنطلقة من السخرية اللفظية من
معنى الحقارة أو التحقير إلى تعديله بتصويب أوضاع
الحقراء أنفسهم، فتتوالى الدلالات من مكمنها الساخر
لتندغم في ذلك المبنى الساخر بلوغاً للقصد الأعم
والأشمل، كأن تترادف الدلالات التالية: الحقراء ضحية
قهر الآخرين لهم، قيام دولة الحقراء يعني إحقاق الحق
وإبطال الباطل، ونفي التبعية يفيد نفي الحقارة.. الخ،
لأن المساواة الطبيعية تعرّي الأوضاع الخاطئة، وتلغي
الاستلاب:
«يوم
تتعرض جواهر الذوات.. تبين الأجسام من غير أردية مشذاة
لتتجلى المساواة الطبيعية بدون تدخلات وتكييفات.. يوم
تسقط كافة التبريرات المزيفة التي كانت لمصلحة حجتهم
ضدكم بأنكم حقاً حقراء.. يوم لن تكونوا محتاجين إلى
مجاراة وضعية الاستلاب.. والرضوخ لها بحكم سيطرة
الواقع المادي على حياتكم.. والذي أجبركم على قبول
موقع الحقارة.. والاجتهاد القاسي لاستيعاب متطلبات
التحقير الفظة»
(الصفحة 16).
و- إن الملمح العميق يكمن في المبنى الساخر هو تضافر
قلب الدلالات مع التحليل الفكري للموضوع من خلال تمثيل
التركيب الجديد بالهجاء والتهكم من صفات العاجز في
المقالة الثانية تدعيماً لأسلوب الهزء من دنيا
العاجزين وسيرورة العجز فيها:
«ومن
هذه النقطة الحرجة ينجح العاجزون في تفجير ثورة جدلية
بلا جدوى.. فتسود نظرية الخرافة ويهرب المنطق من
الحلبة.. ويصير العلم سفيهاً ومقزماً.. أما الهالة
الزخرفية الشائقة والقزحية يجد كل شيء تفسيراً له في
المجازات العجزية التي ليست جادة وبالتالي ليست مكترثة
بالدفوعات العلمية.. وهكذا تستولي روح العاجزين على
أفئدة الدهماء فيحيدون عن مواقع النصب والمغالبة والجد
إلى مواقع التسليم السهل بمنطق العاجزين الذي لا يعترف
بقانون الذاتية»
(الصفحة 25).
5- أساليب السخرية ودلالاتها العامة:
لا تأتي السخرية في الكتابين في الملاحظة الأولى تسلية
أو إضحاكاً أو هجاء ذاتياً لحالة معينة أو لوضع محدد،
بل تندغم أساليب السخرية في تثمير إبلاغي يحافظ على
أقصى قدر من بلاغة الإيصال بوساطة تقانة المسرحة
والمفارقة واختراق المألوف.
والملاحظة الثانية هي ارتهان أساليب السخرية
لدلالاتها، فلا يستخدم الأسلوب لذاته براعة أو
مهارة أو حلية، لأنه تطويع لأمداء ثراء المعنى
إيماء أو تصريحاً يدعم فكرة النص.
والملاحظة الثالثة هي مكانة أساليب السخرية في
إضاءة المواقف الفكرية بما هي الاعتمال اليقظ
لرؤية حال الأمة العربية في معمعان المتغيرات الدولية.
والملاحظة الرابعة اندغام أساليب السخرية في بلوغ
وظيفية الخطاب الأدبي، على أنه فعل مقاومة
تصليباً لعناصر الأمة الذاتية وتفعيلاً لطاقات العربي
الكامنة والمحصورة وتحفيزاً لعمليات الوعي بالتاريخ.
والملاحظة الخامسة هي اكتساب أساليب السخرية تنوعاً
في الخطاب الأدبي واللغوي الذي يكتنز غنى الواقع
ورؤاه من خلال تعدد مستويات دلالة السخرية اللغوية
ولاسيما التعارض والمبالغة واختراق المألوف.
ليتحقق صدق فني يلتحكم مع الصدق التاريخي على أن القصد
الأعم هو المزيد من الإقناع في إبلاغية النص وسيرورة
وحدة تأثيره تأملاً عميقاً في حال الأمة العربية
وأهمية مقاومة ما يعوق تقدمها.
الهوامش والإحالات:
([i])
القذافي، معمر: «القرية.. القرية، الأرض..
الأرض وانتحار رائد الفضاء» مع قصص أخرى،
الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع والإعلان،
ط1، 1423هـ.
([ii])
القذافي، معمر: «تحيا دولة الحقراء..» الشركة
العامة للورق والطباعة (د.ت).
([iii])
وهبة، مجدي: «معجم مصطلحات الأدب»، مكتبة
لبنان، بيروت 1974م، ص262-263.
([iv])
جبور، عبد النور: «المعجم الأدبي»، دار العلم
للملايين، بيروت 1979م، ص138.
([v])
الهوال، د. حامد عبده: «السخرية في أدب
المازني»، دراسات أدبية، الهيئة المصرية
العامة للكتاب، القاهرة 1983م، ص22.
([vi])
فاعور، د. ياسين أحمد: «السخرية في أدب إميل
حبيبي»، دار المعارف للطباعة والنشر، سوسة،
تونس، 1993م، ص14.
|